انقلاب عسكري في فرنسا؟
كشف أحد المواقع الإلكترونية الفرنسية، في شهر مارس/ آذار الماضي، عبر تحقيق مصور وموثّق، عن وجود عناصر من الجماعة النازية الجديدة في الجيش الفرنسي، مركزاً على وحدات "الفرقة الأجنبية" المؤسّسة سنة 1831، والمكونة من جنسيات عدة، ولها نظامها الخاص، على الرغم من انخراطها في عديد القوات النظامية. وفي أثناء استجوابها من مجلس الشيوخ، أدانت وزيرة الدفاع الفرنسية هذه الظاهرة التي تمتد إلى وحداتٍ أخرى، لكنها أكثر تركيزاً في تلك الفرقة الأجنبية. وأشارت الوزيرة أيضاً إلى إطلاق مسار تحقيقٍ للكشف عن أسباب هذا الانحراف الأخلاقي وحجمه، كما لاتخاذ الإجراءات العقابية المناسبة.
بشكل عام، تتميز الجيوش في كل الدنيا، بابتعادها، أفراداً محترفين وقادةً، عن الفكر التقدمي، وعن نهج احترام الخيارات الديمقراطية للشعوب. وتميل أكثر في الدول النامية إلى الانقلاب تباعاً على الأنظمة السابقة، ولو كانت عسكريةً، حسب التيارات المهيمنة في قياداتها. وتبقى بعض الاستثناءات، كالدور الوطني الذي لعبه الجيش البرتغالي في ثورة القرنفل سنة 1974، حين أزاح الديكتاتور سالازار، متيحاً المسرح السياسي للعبة الديمقراطية، وكذلك وقوف الجيش التونسي إلى جانب الشعب في ثورة الحرية سنة 2010.
تتميز الجيوش في كل الدنيا، بابتعادها، أفراداً محترفين وقادةً، عن الفكر التقدمي، وعن نهج احترام الخيارات الديمقراطية للشعوب
لهذا السبب، عمدت الأنظمة الديمقراطية، أو التي خطت خطواتٍ حثيثةً باتجاهها، إلى تحديد وتحييد دور القوات المسلحة على مسرح الحياة السياسية. وعزّزت من مهنيتها، وجعلت منها أداة تنفيذية محدودة الصلاحيات بشكل مقونن، من دون ثغراتٍ تسمح بمرور الذهنية العسكرية القاسية، تفكيراً وتحليلاً واستنتاجاً، مع استثناءات لا بد منها. في المقابل، سمح التأخر في ذلك لمجموعة انقلابية من الجيش الإسباني، تربت على تسلطية الجنرال فرانكو عقوداً، بمحاولة العودة بعنف إلى واجهة الحياة السياسية، من خلال اقتحام البرلمان الإسباني في العاصمة مدريد سنة 1981، قبل أن يمتص الملك خوان كارلوس حركتهم، ويعمد إلى إطلاق برنامج إصلاح القطاع الأمني والعسكري لأجل تغيير العقيدة أساساً، لتقوم على مبدأ حماية حدود الوطن، وليس السعي إلى لعب أي دور سياسي، مهما كان خجولاً. من جهتها، قامت القيادة السياسية المنتخبة ديمقراطياً في تركيا، مع بداية الألفية الثالثة، بمبادرات جادّة باتجاه إعادة الدور الدفاعي والمهني للقوات المسلحة، وسحب رموزٍ سياديةٍ كانت تتمسّك بها، وإبعادها عن دورها المهيمن سياسياً واقتصادياً، في محاولة لتعزيز فرص انتهاج مسارات الحلول الديمقراطية، وقبل أن تتحول تلك القيادة المنتخبة نفسها إلى الميل إلى التوجه التسلطي النسبي.
عمدت الأنظمة الديمقراطية، أو التي خطت خطواتٍ حثيثةً باتجاهها، إلى تحديد وتحييد دور القوات المسلحة على مسرح الحياة السياسية
في الخلاصة، تحتاج الجيوش لتأطير أهل السياسة، ما يحتّم أن يكون وزير الإشراف مدنياً، ويجعل قادة الجيش خاضعين لسلطته ولأوامره، وتأدية تحية الاحترام له، مع الحفاظ على انضباط عسكري يرتبط أساساً بالأخلاق وبالمعايير الوطنية، من دون أيّ شكل من أشكال التدخل أو التداخل في الحياة المدنية ومعها.
وفي فرنسا، حاضنة ثورة حرية تأسيسية، وحاملة مشعل قيم الحرية والمساواة والأخوّة الخافت تدريجاً، ومع التطوّر المتراجع للوعي السياسي الجمعي، نتيجة تراكم الخيبات متنوعة المصدر لدى الرأي العام، تحمّس بعض العسكر للتعبير عن آراء يمينية متطرّفة، تنتهك واجب التحفظ الذي يلتزمه من يرتدي الزي العسكري، مع الرتب أو من دونها، في البلدان الديمقراطية. وعلى هامش انشغال الناس بوباءٍ لا نهاية لنفقه، وانهماك السياسيين في الحكومة بالبحث عن حججٍ تشيح بأنظار العامة عن ضعف إدارة الأزمة الوبائية أو عجزها، وميلهم إلى تأجيج النزعات الرّهابية التي تغازل خطاب المتطرّفين من كل صنف، اختار بعض قادة الجيش من المتقاعدين عموماً إلى جانب مئات آخرين من مختلف الرتب، أن يخطّوا بياناً شديد اللهجة، تفوح منه رائحة التمرّد على دولة القانون، وعلى النظام الديمقراطي، بالإشارة إلى احتمال تدخل القوات المسلحة في حفظ الأمن والاستقرار اللذين يدّعون أن الدولة القائمة تتخاذل في حمايتهما.
تحمّس بعض العسكر للتعبير عن آراء يمينية متطرّفة، تنتهك واجب التحفظ
وقد صادف تاريخ نشر هذا البيان/ التهديد الذكرى الستين لانقلاب الجنرالات سنة 1961، الذين تمرّدوا حينها على منح الجزائر حق تقرير المصير، واعتبروا الخطوة خيانة لحربهم المستعرة ضد الجزائريين، واستهانة بتضحيات القوات المسلحة. فشل الانقلاب، وجرت محاكمتهم، واستعاد الجنرال النادر سياسياً، شارل ديغول، زمام الأمور، محافظاً على الخيار الديمقراطي الفرنسي. وإمعاناً في التطرّف، حذّر البيان من الإسلامية السياسية والفوضى في الأحياء التي تقطنها غالبية من المسلمين، التي "تؤدّي إلى انفصال أجزاء من الأمة، لتتحوّل الى أراضٍ خاضعةٍ لعقائد تناقض دستورنا". إن آخر من تطرّق إلى مسألة الانفصالية والترهيب منها لم يكن سوى الرئيس ماكرون الذي أدخل في مفرداته السياسية كثيراً من عبارات اليمين المتطرّف عن قصد أو عن سوء اختيار، لكن النتيجة كانت أن عُمِّمَتْ هذه التعابير، وصارت متاحة، وصار استخدامها لا يُخجل أحداً بعدما كان شبه محظور عقوداً طالت.
أدانت الحكومة هذا البيان، وقرّرت وزيرة الدفاع، فلورنس بارلي، مجدّداً، أن تفتح تحقيقاً متوعدة بأشد العقوبات. وندّد اليسار بالفضيحة العسكرية. وحدها زعيمة اليمين المتطرّف، مارين لوبان، فرحت بالبيان، وباركت لمحرّريه، ودعت إلى تبنيه. والخلاصة تكمن في أن سحب التخبط السياسي واللعب على أوتار الحساسيات العنصرية والإقصائية قد أتت بمطر التطرّف والتوجه نحو خطابٍ لم تعتده فرنسا.. بعد.