انتفاضة الجبل وعلم الثورة
تطرح انتفاضةُ جبل العرب أسئلةً على الشعب السوري، بمختلف مكوّناته، تتعدّى عالم السياسة والحالةَ الثورية، لتتداخل مع الأوضاع الاقتصادية، والاجتماعية، بالإضافة إلى استعادتها أحداثاً تاريخية ذات دلالة... ما يرتقي بها، فيما أعتقد، إلى مستوى القضايا الوطنية الكبرى.
ثوّار 2011، الذين استقرّت حالتُهم الثورية على أن تسليح الثورة كان خياراً صائباً، وأن تطييفها رد فعل مشروع على طائفية النظام؛ فرحوا بثورة أهل الجبل، وهلّلوا لها، وأعلنوا، بالفم الملآن، أنها امتداد لثورتهم، وأنها ستكون الضربة القاتلة لنظام الأسد الذي يترنّح تحت وطأة العقوبات الأميركية، والوضعِ الاقتصادي المتردّي للشعب، ووصول الدخل الشهري للموظف السوري إلى عشرة دولارات. ولكنهم شعروا بغصّة مريرة، عَبَّرَ عنها عددٌ منهم، بأن أهل الجبل امتنعوا عن حمْل "علم الثورة" في مظاهراتهم، وذهب بعضهم إلى أن هذا الأمر "فيه إنَّ".
لم يسأل أحد من الثوار، أو مؤيدي الثورة نفسَه، عن ماهية علم الثورة. من أين جاء؟ ومَن الذي جعله رمزاً إجبارياً للثورة، واعتبره معياراً للثورية الحقيقية؟ يرى محسوبُكم، كاتب هذه المقالة، أن تغيير علم سورية لا يجوز أن يسبق تغيير النظام نفسه، ومهما نكن معادين لهذا النظام، ومتّفقين على أنه من أسوأ الأنظمة الاستبدادية على سطح الأرض، لا نستطيع أن نُنكر أن العلم الذي يتبنّاه النظام لا يزال معترفاً به، ومرفوعاً في الأمم المتحدة، وجامعة الدول العربية، والتصفيات الرياضية، وحيثما توجد سفارة أو قنصلية لسورية. ولا يفوتنا أن كل سوري، حتى ولو كان قائداً في المعارضة، عندما يفتح حساباً على أي من وسائل التواصل الاجتماعي، عندما يكتب كلمة "سورية" في خانة الدولة، ستنزل إلى جوارها صورة ذلك العلم، ونحن لا نستطيع قبول الزعم بأنه مجرّد "راية" ترمز للثورة، لأن الجميع يسمونه عَلَماً، وأما عن مصدره، فقد أخبرني المعارض السوري في الولايات المتحدة، صفوح البرازي، أن لفيفاً من الوطنيين السوريين اجتمعوا في دمشق، سنة 1928، وطلبوا من حكومة الانتداب الفرنسية أن يكون لسورية علم خاص، يرمز للثورات الثلاث التي قامت سنوات 1920 و1925 و1928، وأن تؤخذ فكرتُه، وألوانه من بيت للشاعر العراقي صفي الدين الحلي: بيضٌ صنائعُنا، سود وقائعنا، خُضر مرابعنا، حمر مواضينا.. هذا الكلام؛ لو دقّقتَ فيه، لا يعدو كونه فخراً خطابياً يقارب منطقَ عمرو بن كلثوم في قوله: إذا بلغ الفطامَ لنا صبي/ تخرّ له الجبابر ساجدينا!).. المهم أن حكومة الانتداب لم توافق، ثم وافقت في سنة 1932، ولكنها لم تسمح لهم برفعه، بدليل ما حدث في 17 إبريل/ نيسان 1946، عندما صعد كمال قصّاب إلى سطح البرلمان، وحاول تعليق العلم، فأطلق عليه عناصر الدرك النار وأردوه قتيلاً، وهذا يعني أن موافقة فرنسا على رفع العلم لم تكن جدّية، أضف إلى ذلك أن علم سورية جرى تغييره كثيراً بعد 1946، وفي أيام الوحدة مع مصر، ثم الانفصال، ثم عهد "البعث". وفي كل الأحوال، لا يمكننا النظر إلى رفع علمين في دولة واحدة إلا بوصفه تقسيماً للشعب إلى شعبين!
وعلى ذكر التقسيم؛ ظهرت أصوات كثيرة في وسائل التواصل الاجتماعي تقول إن الهدف من انتفاضة جبل العرب الحالية، الانفصال عن سورية، وهذا مخالفٌ لمنطق التاريخ، ففي 1921، أعطت السلطات الفرنسية الاستقلال للجبل، وفي الرابع من مارس/ آذار 1922، أعلنت دولة السويداء، ولكن الثورة السورية الكبرى انطلقت من الجبل نفسه، بقيادة سلطان الأطرش، فلو أنهم انفصاليون، لجلسوا يتنعّمون بانفصالهم، وكفاهم الله شر القتال.. وهذا العمل يتكرّر حالياً، بطريقة أكثر رقياً، ووطنية، فثوّار الجبل يخرجون بنسائهم ورجالهم، في ساحة الكرامة، وينادون، صراحة، بتحرير سورية من استبداد عائلة الأسد، ويرفعون شعاراتٍ تتحدّث عن وحدة سورية، وأن يكون الدين فيها لله، والوطن لجميع السوريين.