الوهم والمخادعة بين تونس والاتحاد الأوروبي
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية
تواصل ماراثون المفاوضات والمشاورات الأوروبية التونسية بشأن ملف الهجرة السرية أو غير النظامية ليتوّج بتوقيع مذكّرة التفاهم حول الشراكة الاستراتيجية والشاملة بين تونس والاتحاد الأوروبي يوم 16 يوليو/ تموز 2023. ولعل المتأمّل في حيثيات المذكّرة وسياقاتها لا يملك إلا أن يسوّق ملاحظات عامة وأولية قبل أن يخوض في مضمونها ومحتواها.
أولا: يتعلق الأمر بمذكرة تفاهم لا اتفاقية أو معاهدة دولية، ما يوحي بأنها تمثل نقطة البداية لتفاهمات واتفاقات أكثر عمقا وتفصيلا وإلزامية للطرفين. ثانيا: تربط هذه المذكرة بين طرفين غير متكافئين من حيث القوة الاقتصادية والامتداد الجغرافي والسياسي والخصائص الثقافية، ما يوحي بانخرام موازين القوى، ويشي مبدئيا بترجيح كفّة القوي على الضعيف، وهو ما يطرح تساؤلات حول ما إذا لم يكن من الأنسب أن تدخل تونس هذه المفاوضات مدعمة ومسنودة من شركائها في المغرب العربي أو الاتحاد الأفريقي، لا سيما وأنهما يشتركان في الرهانات والقضايا والتحدّيات المطروحة مع الاتحاد الأوروبي، وأن من شأن هذه الشراكة المغربية الأفريقية أن تؤسّس دعائم رؤية إستراتيجية شاملة لراهن العلاقات الدولية بين الطرفين الأوروبي والأفريقي ومستقبلها، وتصلح نسبيا ما اعوجّ من موازين القوى بينهما. ثالث الملاحظات أن هذه المذكّرة تؤسّس لشراكة إستراتيجية وشاملة، أو تسعى إلى ذلك، بمعنى أنها ظاهريا ترنو إلى الحلول محل اتفاقية الشراكة بين تونس والاتحاد الأوروبي الموقعة في 1995، والتي لم تعد تواكب زخم التطوّرات والهزّات والتحوّلات التي شهدها المشهد السياسي والاقتصادي الدولي والإقليمي والعلاقات الثنائية الأوروبية والتونسية. يتعلق آخر الملاحظات بالسياق العام الذي وردت فيه مذكرة التفاهم، وهو سياق دولي شائك ومعقد، يتعلق بملف الهجرة غير النظامية، وما أفرزته من جدل وتباين في الرؤى، وتشهير بانتهاكات لحقوق الإنسان وللحق في اللجوء فيما يخصّ معاملة السلطات التونسية للمهاجرين الأفارقة القادمين بصورة غير شرعية من جنوب الصحراء.
ويتمثل مضمون المذكّرة في جملة من المحاور والقضايا المشتركة تصبّ معظمها في ملف جوهري ومفصلي، تحوم حوله مختلف المسائل الثانوية، أنه ملفّ "ردع الهجرة غير الشرعية" وقمعها، وما بقية الملفات إلا مسكّنات وذرّ رماد في العيون، وإيهام بأن العلاقات الأوروبية المغاربية شاملة واستراتيجية، وتتجاوز قضية الهجرة والمسائل الأمنية المرتبطة بها.
يتعلق الأمر بمذكرة تفاهم لا اتفاقية أو معاهدة دولية، ما يوحي بأنها تمثل نقطة البداية لتفاهمات واتفاقات أكثر عمقا وتفصيلا وإلزامية للطرفين
تتضمّن التوطئة تذكيرا بالروابط التاريخية بين تونس والاتحاد الأوروبي، وبالطابع الاستراتيجي للشراكة بينهما ووحدة التحدّيات التي تجمعهما. وتشي التوطئة مبدئيا بأن المذكّرة ستتناول موضوعين أساسيين، تعزيز الشراكة الاقتصادية والتجارية ومقاومة تيارات الهجرة غير النظامية والحد منها وإنقاذ الأرواح البشرية. ويتضمّن محور الشراكة الاقتصادية ودفع عجلة الاستثمار النهوض بجملةٍ من القطاعات الحيوية، أهمها الفلاحة والتصرّف المستدام في المياه عبر إيجاد حلول لشحّها ولتدهور جودتها والاستثمار في مجال الفلاحة البيولوجية والأمن الغذائي، إلى جانب تعزيز التعاون في مجال إرساء أسس الاقتصاد الدائري والانتقال الرقمي عبر تنمية القدرات والتعاون التكنولوجي والتمويل والمشاريع المشتركة. وتتمثّل الشراكة في قطاع النقل الجوي في تنمية الرحلات الجوية بين تونس ودول الاتحاد الأوروبي، ودعم قدراتها التنافسية في هذا المجال والنظر في شروط إبرام اتفاقية شاملة للنقل الجوي بين الطرفين.
وفيما يتعلق بالاستثمار، تعتزم تونس تنظيم ملتقى دولي بشأنه، سيكون مناسبة لبحث مجالاته بصورة مشتركة بين الطرفين، ومعاضدة السياسات التونسية لمقاومة الفقر والبطالة والإقصاء الاجتماعي ولتنمية الاستقلالية الاقتصادية. وبالإضافة إلى ذلك، تضمّنت مذكرة التفاهم محورا منفصلا خصّص للانتقال الطاقي، حيث يتعهد الطرفان بإبرام شراكة استراتيجية في مجال الاستثمار في الطاقات المتجدّدة قصد النهوض بالاقتصاد الأخضر وبعث مواطن الشغل. وتهدف هذه الشراكة على المدى البعيد إلى إدماج البلاد التونسية في قطاع التجارة الدولية للطاقة المتجدّدة وتزويد السوق الأوروبية بها.
وتختتم مذكرة التفاهم بمحورين متمايزين عن سابقيهما مضمونيا ومتقاربين ظاهريا، إذ ينصبّان في المجال الإنساني والاجتماعي عبر التأسيس للتقارب بين الشعوب وتناول مسألة الهجرة والتنقل، ففيما يتعلق بالتقارب بين الشعوب، ترنو المذكّرة إلى مواصلة التعاون لتدعيم قدرات المجتمع المدني وتدعيم التحاور بين الشعوب، وتعميق التلاقح الثقافي والعلمي والتكنولوجي. كما يتعهد الاتحاد الأوروبي بتقديم دعم إضافي لتونس في مجال التكوين المهني والتقني والبحث العلمي والتعليم والثقافة والشباب، إلى جانب تنمية كفاءات اليد العاملة التونسية، وتوحيد شروط الحصول على التأشيرة، للولوج للاتحاد الأوروبي في إطار إقامة قصيرة المدة.
معالجة ملفّ الهجرة غير الشرعية لا تتم بالضرورة بإعادة المهاجرين إلى أوطانهم الأصلية، بل هناك مقارباتٌ أخرى أكثر عدلا وصوابا
وآخر المحاور وأهمها "الهجرة والتنقل" وتم تنزيله في ختام المذكّرة في حين كان يجدُر أن يتصدّرها، لأنه عصارة الاتفاق بين الطرفين وسبب وجوده. يتضمّن هذا المحور التأسيس لجدلية الهجرة والتنمية ولمقاربة شمولية لملفّ للهجرة، تهدف إلى تثمين مساهمة الهجرة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والتقارب بين الشعوب ومعالجة الأسباب العميقة للهجرة غير الشرعية. ويتعهد الطرفان الأوروبي والتونسي، في هذا السياق، بالنهوض بالتنمية المستدامة في المناطق المهمّشة المصدّرة للمهاجرين غير الشرعيين، وتعزيز تشغيلية اليد العاملة التونسية ذات الوضعية الهشّة عبر دفع التكوين المهني والمبادرة الفردية. كما يتعهد الطرفان بمنح أولويات مشتركة للتصدّي للهجرة غير الشرعية. وبرّر الطرفان هذا الموقف بالرغبة في الحفاظ على الأرواح البشرية وحماية حقوق الإنسان، وبالسعي إلى تيسير سبل الهجرة الشرعية، وهي مبرّرات واهية لا تنطلي على عاقل ومطلع على خبايا الأمور، لأنه يدرك أن الهدف الفعلي لهذه التعهّدات دفع الدولة التونسية نحو الرضوخ لإملاءات الاتحاد الأوروبي في مجال القمع الأمني للهجرة غير الشرعية والتهجير القسري للمهاجرين السرّيين وتقمّص دور الحارس للحدود الأوروبية بصورة مقنعة ومنمقة.
ولمزيد من إضفاء شرعية لهذا الدور، تجدّد تونس موقفها في هذه المذكّرة بأنها لست دولة توطين للمهاجرين غير الشرعيين، وبأنها لن تكون حارسة إلا لحدودها. ويتعهد الطرفان، في هذا الصدد، بالعمل على عودة المهاجرين غير الشرعيين الموجودين في تونس إلى بلدانهم الأصلية، ما يدعو إلى التساؤل عن السبل، وقد تضمّنت المذكرة حزمة من الآليات والإجراءات، لتجسيد هذه التوجهات، تتمثل عموما في احترام حقوق الإنسان ومقاومة الشبكات الإجرامية للتسفير والاتجار بالبشر، وتعزيز الدعم المالي لتتمكّن البلاد التونسية من حسن التحكّم في حدودها. كما يتعهد الطرفان في خاتمة المذكّرة بمزيد من إسناد عودة وإعادة توطين المهاجرين غير الشرعيين التونسيين من الاتحاد الأوروبي إلى البلاد التونسية، في إطار احترام القانون الدولي والكرامة البشرية والالتزام بإعادة إدماجهم الاقتصادي والاجتماعي في بلادهم، عبر المساعدة على بعث مشاريع اقتصادية ذات ديمومة والنهوض بالتنمية المحلية وبعث مواطن الشغل. ويبدو هذا الالتزام الأكثر خطورةً والأشدّ وقعا على الوضع الاجتماعي والاقتصادي في البلاد التونسية، خصوصا وأن قدرتها على الوفاء بالتزاماتها غير مضمونة وغير محمودة العواقب. أضف إلى ذلك أن هذا التعهّد يتناقض مع ما ورد في بقية فصول المذكّرة من تثمين لمزايا الهجرة وللتقارب بين الشعوب، ولسعي الاتحاد الأوروبي إلى دعم الاقتصاد التونسي وتبسيط إجراءات التنقل إلى دول الاتحاد الأوروبي ولاحترام حقوق الإنسان وكرامتهم البشرية، إذ لا يخفى على أحدٍ ما يتخلّل عمليات التهجير والترحيل من انتهاكاتٍ لحقوق الإنسان واعتداء على كرامة المهاجرين وسطو على أحلامهم في البحث عن غدٍ أفضل وأفق أرحب، وما لها من تبعاتٍ وخيمةٍ على اقتصاديات دول الموطن المنهكة والهشّة.
تونس تعيب على الاتحاد الأوروبي تبنّيه مقاربات ردعية للهجرة غير الشرعية، وأضحت تقفو آثار الشريك الأوروبي في تعاملها مع مهاجرين ينتمون إلى قارّتها
أما مسألة تشجيع قنوات الهجرة الشرعية فهي قول حقّ أريد به باطل، لأن سياسات الهجرة الشرعية التي يسلكها الاتحاد الأوروبي، سيما مع صعود اليمين المتطرّف في بعض دوله ترتكز على انتقاء (واستقطاب) المهاجرين ذوي الكفاءات العالية الذين يحتاجهم سوق الشغل، وتكون لهم قيمة مضافة لاقتصاد الدول الأوروبية. وفي المقابل، تحرم دول العالم النامي من أدمغته وكوادره العليا، ومن فرص النمو والتنمية التي أُهدرت، وكان بالإمكان اقتناصها لو كان لدول الاتحاد الأوروبي نيّة صادقة للمساهمة في تحقيق تنميةٍ شاملةٍ وعادلةٍ في تونس وفي غيرها من دول جنوب البحر الأبيض المتوسط، فكيف لدولٍ أن تنهض وتتقدّم وتقلع اقتصاديا واجتماعيا، وقد سرقت كفاءاتها وهجرت أدمغتها. ومهما كانت المغريات المالية والمساعدات الممنوحة من الشريك الأوروبي، فإن آثارها لا تضاهي الخسائر والتكاليف التي ستقع على عاتق الشريك التونسي، إنسانيا واجتماعيا واقتصاديا. ثم إن معالجة ملفّ الهجرة غير الشرعية لا تتم بالضرورة بإعادتهم إلى أوطانهم الأصلية، بل هناك مقارباتٌ أخرى أكثر عدلا وصوابا، كتشجيع السياسات الهادفة إلى تسوية وضعياتهم وإدماجهم في دول الإقامة، وفي الدورة الاقتصادية لهذه الدول.
نقطة استفهام أخرى تثار بشأن السبل التي سيتم عن طريقها ترحيل المهاجرين الأفارقة الذين اجتازوا الحدود التونسية خلسة، وكلفة هذه العودة القسرية إنسانيا واجتماعيا، وهل مثل هذه الملفّات لا تعالج إلا بصورة أمنية وردعية، وتونس التي تعيب على الاتحاد الأوروبي تبنّيه مقاربات ردعية للهجرة غير الشرعية، وعدم معالجتها عبر اجتثاث أسبابها العميقة، أضحت تقفو آثار الشريك الأوروبي في تعاملها مع مهاجرين ينتمون الى قارّتها، ويشتركون معها في معاناتها الإنسانية في ضنك العيش وفي التهميش والتفقير والقهر.
محصل الكلام أن مذكّرة التفاهم الموقعة بين تونس والاتحاد الأوروبي مثالٌ لزرع الوهم من شريك أوروبي متخيّل ومخادع يتقن فن المفاوضة والتفاوض واقتناص الفرص وحصد الشوك من شريك تونسي، يبحث عن المخارج والحلول لإقناع نفسه بأنه ليس حارس حدود أو أرض توطين، بل هو مالك قراره وسيد لمصير كفاءاته وثرواته المنهوبة، وأهل لإنصاف مواطنيه المقيمين بصورة غير شرعية في الاتحاد الأوروبي.
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية