الوصائية الغربية والعنف ضد المرأة
وفقاً لمسح أجرته منظمة الصحة العالمية عام 2018، تتعرّض 30% من نساء العالم للعنف من شركائهم أو من غرباء. أما أعداد ضحايا العنف الأسري في أميركا فتقدر بواحدة من كل ثلاث نساء، وواحد من كل أربعة رجال. ووفقا للأمم المتحدة؛ في كل 11 دقيقة تُقتَل امرأة أو فتاة على يد فرد من الأسرة، في أعداد تتصاعد في كل أنحاء العالم... وتقتصر هذه الأرقام على الحالات التي جرى التبليغ عنها، ولا تشمل الاعتداءات الجنسية على النساء في السجون والحروب، فيما أصبحت أخبار الجرائم ضد المرأة في العالم العربي شبه يومية، وتزداد بشاعة كل يوم.
إذن؛ ليس الحديث في الموضوع نوعا من الترف، لأن هذا العنف يمارَس ضد الأطفال أيضا، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، إذ يرتعد الطفل من تعنيف والدته أمامه، ويفقد شعوره بأمانه وبالحماية الأسرية، فهو تهديد واضح للمجتمع وللإنسان وصحته الجسدية والعقلية، فنحن نتحدّث عن التنمية ونتجاهل ضرر العنف على الإنسان.
في خطابه في اليوم العالمي ضد العنف الأسري، يقول الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، إن من أسباب تزايد الجرائم الأسرية في العالم تداعيات جائحة كورونا وتدهور الأحوال المعيشية نتيجة الأزمات الاقتصادية، فالضغوط النفسية الناتجة عن الشعور بالعجز عن تأمين الحد الأدنى من احتياجات الأسرة تولّد العصبية وفقدان السيطرة. لذا؛ تزداد حالات العنف الأسري خلال فترات التدهور الاقتصادي أو ظروف الحروب وأجواء قمع الحكومات. وذلك لا يلغي ولا ينكر النظرة الدونية في المجتمع إلى الإناث وسطوة الذكورية على تقاليد المجتمعات.
يجب أيضا البدء بالتفكير بحالات الاعتداء ضد الرجل في الأسرة، صحيح أنها قد تكون قليلة، إلا أنه لا يمكن اعتبار المرأة الضحية دائما
يبقى الربط بين الظروف السياسية وازدياد العنف مُهمّاً في وضع الرؤى لمواجهة العنف الأسري، الذي كما يظهر في أميركا يمارس ضد الرجال وليس ضد النساء فقط، ولكن الضرورة التركيز على تأثير الأوضاع السياسية والاقتصادية في التحليل، ليس لأن الربط دقيق فحسب، بل لأنها تكشف نفاق الحكومات الغربية التي تموّل مئات الفعاليات في العالم تتعلق بمكافحة العنف ضد المرأة، فيما تستمرّ في فرض أنظمة اقتصادية تطحن الشعوب في سبيل إثراء الرأسمالية، فلا يمكن المسّ بسياسات التقشّف التي تفرضها بين أي أعمال عنف.
يجب فضح العقلية الذكورية وممارسات التمييز الذكورية ضد المرأة في مجتمعاتنا، لكن يجب أيضا التنبه إلى أن جزءا من العنف المتزايد في العالم، وليس فقط في العالم العربي، هو أيضا نتيجة سياسات الإفقار وإخضاع العمّال لظروف مهينة تُفقِد المرء، رجلا وامرأة، إحساسه بقيمته الإنسانية. ولذا يركّز الغرب على حماية المرأة المعنفة وتوعيتها بحقوقها وضرورة الإبلاغ عن التحرّش والعنف، وكله مهم. لكن، بدون الاعتراف بمسؤولية النظم الاقتصادية الاجتماعية عاملا مهما في تصاعد حالات العنف الأسري.
لا يبرّر كل ما ورد جريمة قتل واحدة ارتكبها رجل ضد زوجته أو أخته أو أمه أو صديقته. ليست كل الجرائم وليدة لحظة غضب أو انفجار توتر وضغط، بل نرى في العالم العربي، وحتى الغربي، تزايد حالات الاغتصاب والقتل لمجرّد رفض فتاة قبول صداقة رجل أو الزواج منه، أو للتخلص من الزوجة مدفوعا بعقلية كراهية للمرأة التي تفقد جاذبيتها بعد الزواج، فكلمات التعنيف في أحيان كثيرة تدلّ على ملل الرجل وإحساسه بأنه لم يحقق "رجولته" بعد، فالنكات السائدة عن "ذبول جمال الزوجات"، بقصد أو بغير قصد، تصبح كلمات تحريضٍ في عقل رجل ندم على الزواج، وتمنى حياة مع جميلات، لم تتح له الفرصة للتمتع معهن قبل الزواج... لا أريد تضخيم هذا العامل. لكن؛ لنعترف أن ذلك التفكير موجود، وإنْ كان لا يتسبب في أغلبه بجرائم، لكنه يُمارَس، في أحيانٍ كثيرة، على شكل التعنيف اللفظي الموجع للمرآة.
لا بد أيضا الانتباه إلى أن ثقافة العنف السائدة ليست فقط في الأزمات والحروب الحقيقية، وإنما في الأفلام والألعاب، حتى ألعاب الأطفال هي أحد أهم عوامل تزايد العنف العالمي، فنرى أن بعض أعمال العنف ضد الأطفال يرتكبها أطفال، فهناك حالة من تطبيع العنف تؤثر على العقول والسلوك، وإلا فكيف نفسّر مثلا زيادة حالات العنف ضد المرأة في أميركا؟ صحيحٌ أن أميركا ليست استثناءً من ناحية انتشار الفقر والقمع الطبقي، وأن ذلك مرتبط بالجرائم، لكنّ هناك تطبيعاً غير معقول لعمليات العنف والإجرام، حيث يشعر المرء بأن كتّاب سيناريوهات بعض المسلسلات الأميركية يتبارون في إنتاج مشاهد عنف مروّعة للتعذيب والقتل البطيء، فيصبح ارتكاب الجرائم طبيعيا.
العنف ضد المرأة قضية إنسانية، لكن "الوصائية الغربية" ليست الحل، وإنما عقبةٌ في طريق التقدّم
في الحديث عن العنف ضد المرأة، لا بد من التركيز على الاغتصاب، وهو جريمة لا تتعلق باللذة الجنسية فحسب، بل عملية فرض القوة على المرأة من خلال "خرق جسدها"، وهذا ينطبق أيضا على حالات اغتصاب الفتيان والرجال. في حالة الأطفال، البيدوفيليا (الهوس بممارسة الجنس مع الأطفال) ظاهرة حقيقية، ولا نخدع أنفسنا بأنها موجودةٌ في الغرب فقط. نقرأ ونسمع عن جرائم السّفاح، وهي في جزء منها بيدوفيليا، وفي جزء آخر هي اعتبار رب العائلة أن من ينجبه من إناث وذكور (في أغلب الأحيان ذكور) ملكية مطلقة له. وتجرى التغطية عليها في المجتمعات العربية، وأحيانا حتى في العائلات الغربية، فجسد المرأة يشكل مساحة للعنف والاختراق، حتى وإن كان بغرض الانتقام، لكن يجب أيضا البدء بالتفكير بحالات الاعتداء ضد الرجل في الأسرة، صحيح أنها قد تكون قليلة، إلا أنه لا يمكن اعتبار المرأة الضحية دائما. ولذا، لا يمكن انتهاج استراتيجية ضد العنف الأسري بدون دراسة كل أشكاله.
صحيحٌ أن القوانين تتساهل مع حالات قتل المرأة باسم ما تسمّى "جرائم الشرف"، وهو مسمّى يحمل معه ضغطا مجتمعيا على الأبناء، وتحويلهم إلى مجرمين ضد أخواتهم وأمهاتهم وبناتهم، لكنه أيضا تشريع يحمل غطاءً "أخلاقيا" لقتل المرأة، يعيد إنتاج الظلم وسفك دماء النساء.
تحتاج عملية التغيير رؤى، لكن يبقى تطوير (وإنفاذ) سيادة القانون الذي يكون تنفيذه ظلما إذا كان هذا القانون نفسه يتضمّن حكما ظالما، لكنها عملية توعوية، يجب ألا تبقى قصرا على التمويل الغربي، ولا على رؤية حكوماتٍ غربيةٍ تروّج فكرة "القروض الصغيرة" بدعوى "تمكين المرأة"، لتصبح المرأة "غارمة" وعاجزة، فمثل هذه المشاريع هي مخرج لإنكار دور النظم التي تُغَلِب إثراء رأس المال على العدالة الاجتماعية، فتغرق النساء في هوة ديونٍ لا تستطيع تسديدها. طبيعي ألا نرى اهتماما من مموّلي كثير من منصّات حقوق المرأة للأسيرات الفلسطينيات أو أمهات الشهداء الفلسطينيات، فهذا لا يدخل في مفهوم "حقوق المرأة".
نعم، نعاني من مجتمع "أبوي" و"تمييز" قاتل ضد المرأة. والعنف ضد المرأة قضية إنسانية، لكن "الوصائية الغربية" ليست الحل، وإنما عقبةٌ في طريق التقدّم.