الواعظ الذي قاد مصطفى محمود إلى الإلحاد

16 اغسطس 2022
+ الخط -

في عمره الأخير، وقبل أن تُداهمه دورة مرض شديد، اعتاد على أزماته منذ الطفولة، اقتنص السيد الحرّاني زيارة للدكتور مصطفى محمود رحمه الله، ليأخذ موافقته في تدوين تجربته الثرية، والثرية جداً. بعدها بوقت قصير دخل محمود في أزمة صحية شديدة، أقعدته في السرير ثم لبّى نداء الله، وهو تحت رعاية ابنته التي سجّل لها أعلى مشاعر الود والحب، لبرّها الكبير بأبيها، ولم أستغرب أن يُسخّر الله له ذلك، في ابنته أمل وأحفاده وابنه أدهم، لأن سجلّ رحلته تضمّن دفاتر ضخمة من الإحسان النوعي لفقراء مصر، كانوا بمئات الألوف، فكان في كنف الله ورحمته.
لكن كنت في تردّد شديد لكتابتي عنه من أين تبدأ رحلة الحديث عن مصطفى محمود؟ من قصة الإلحاد الذي ثار منذ طفولته، أو من كفاحه الشخصي، لكي يكون أحد أقلام الثقافة في مصر، وهي رحلة استوعبت الكثير من دفاتر ذكرياته، أو من خلال أرشيفه السياسي مع الرؤساء جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك، وللسادات تحديداً سجلّ خاص يفتح بوابة نقدية كبرى لموقف مصطفى محمود، وهي الذاكرة المصرية التي غابت عند المشاهد العربي، وبرزت فقط قصة برنامجه العظيم "العلم والإيمان".
لقد نضجت فكرة البرنامج نفسها، بعدما عاش مصطفى محمود حياة الشك من أوسع أبوابه، ثم ظلّ يخوض فكرة التفسير الفكري للإسلام، أو تحرير معانيه الكلية للإنسان والوجود، والتي كانت في زاوية اتهام شديد ومتكرّر لدى بعض المشايخ، نحتاج مكتبة لتحريرها، فهي قصة تجمع بين سلسلة تآمر وتحريض استهدفت حياته، ورحلة تكفير متكرّرة بحسب ما يرويه، عملت على هدم بيته ومؤسسته فوق رأسه، لكن في طيّاتها أيضاً اعتراف مهم من مصطفى محمود بأنّ الكتاب الذي نقم عليه فيه بعض مشايخ الأزهر، ولم يُعمّم، بل استثنى وأثنى على الفتوى نفسها ولغتها الرصينة التي فنّدت كتابه "الله والإنسان"، ثم أكّد مصطفى محمود أنّ الكتاب بالفعل حمل أخطاء جسيمة، حين صاغها وهو في مرحلة الشكّ، وإن كان يطرحها في بعث الشك الذي يبحث عن الإيمان.

كان والد مصطفى محمود حريصاً على تعليمه الدين، بروح القلب المصري المحبّ، الذي تتحرك فطرته مع الإسلام

بدأت حكاية شك مصطفى من المسجد الصغير، الذي تردّد عليه في ريف مصر، ولقد عاش حياة طيبة مع أبويه، في حضن أمٍّ عطوف رحيمة يخفق قلبه لها، يصف محمود لحظة فراقها بأنّهُ ظلّ في القبر لا يستطيع مفارقته، والناس تحثو عليه التراب، حتى أخرجوه منه، وقد كان يلثم يد أمه، لحظة رحيلها وهو يقول، كلّميني يا أمي ردي عليّ... هل أنت راضية عني؟
إنّها ثورة عاطفة بين الابن ووالديه في ذاتها وهذا انطباعي الشخصي، قوة الإيمان الذي جعل الله فيه دلالة الأسرة في فطرتها، صورة واحدة من عظمة الوجود ورحمة الله في خلقه، وكيف سخّر الوالدين للطفولة والأولاد لوالديهم، حين تستقرّ الأمور بحسب الطبيعة التي يستشعرها الإنسان، وهي الطبيعة التي يزعم الغرب في بحثه عنها سلامة بيئة العالم، وهو يُسقط أصلها طبيعة الإنسان في ذاته "وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وفي أنفسكم أفلا تبصرون".
أما والده الموظف الرسمي البسيط، فقد كان، حسب مصطفى محمود، نموذجاً لخيرية تسعى من دون ضجيج، فقد كان يأخذ ربع راتبه ويوزّعه على الأقارب والجيران الضعفاء، وكان حريصاً على تعليمه الدين، بروح القلب المصري المحبّ، الذي تتحرك فطرته مع الإسلام، من دون غلو أو تشدّد، حسب ما يصف مصطفى محمود. وفي ذاكرة والده، يقول مصطفى، إنه شعر بحنينٍ لا يوصف إليه، وخاطبه من وراء الأفق، وناشده أن تمتدّ إليه من جديد روحه الحانية، وتوجيهه الرشيد، لتنقذه من حملة التكفير.

يؤكّد محمود أنّ سؤال الرحيل الأخير للإنسان كان معه منذ الميلاد

أما الفكرة الثانية التي أصرّ عليها مصطفى محمود، فقد كانت من أين لأسرته بذلك الدخل المحدود للمحاسب المصري، تلك الميزانية التي تدبّرها أمه، بعد صدقات أبيه، وهو يستشعر، بكلّ عمق، مستوى الغذاء والمعيشة الجيدة، التي شملت إخوته وأخواته من أمه، في زواجها الثالث من أبيه، فيَحسم الأمر ويقول إنّها البركة، لن تجد تفسيراً مادياً مطلقاً لذلك، ليس في حياة مصطفى محمود فقط، لكن في حشد هائل من أسرار رحمة الله لخليقته، رحمةٌ لا تنتظر التعميد من أحد باسم قوة الإيمان أو نفيه، لكنّه الله المطلع على القلوب والسرائر.
يؤكّد محمود أنّ سؤال الرحيل الأخير للإنسان كان معه منذ الميلاد، فقد توفي توأمه سعد، بعد ولادته، وظلّ عليلاً مريضاً فترة، بل إنّه غاب عن الوعي إلى الدرجة التي ظن أهله أنه قد توفي، وصاح النائح، قبل أن يُفيق وكأنهُ خُلق من جديد، فتفرح الأسرة المكلومة به. والعجيب أنّ أزمات المرض التي تكرّرت على المفكر الكبير لم توقف سؤال بحثه، وظل يطوف في أصقاع العالم الجنوبي، ويعيش مع القبائل في بدائيتها في أفريقيا وفي آسيا.
ورغم أنّ فرص السفر إلى البلدان الغربية، والرفاه فيها كان حاضراً في حياة مصطفى محمود، ابتداءً من خلال استقطابه في الوفود الإعلامية الرسمية، ثم حين أيسرت أحواله من خلال مبيعات برنامجه الواسعة، ومن خلال نشر كتبه، بحسب ما يُفهم من سياق حديثه، فإنّ مصطفى محمود ظل يُصّر على فهم كلّ فلسفات العالم، وصور التخلف أو التي قد نراها تخلّفاً، خصوصاً مسألة القرابين والذبح، لآلهة القبائل الوثنية. وعند هذه الصورة المفصلة التي عرضها مصطفى محمود، برز السبب الكبير والرئيسي الذي يجيب عن سؤال أفريقيا الفرنكفوني، أو الكولونيالي، لماذا قرّرت القبائل القديمة ثم الحديثة الدخول في الإسلام؟
يربط مصطفى محمود حكاية بحثه عن الإيمان، بأول انعطافة له نحو الإلحاد، وكانت في زاوية مسجد، ولم تكن في معهد علوم.

18C96C38-2AC9-45FF-A3F4-89E11ED2B781
18C96C38-2AC9-45FF-A3F4-89E11ED2B781
مهنا الحبيل
مهنا الحبيل