الهزل حيث لا ينفع إلّا الجَدُّ

04 أكتوبر 2024
+ الخط -

بعيداً من الخفّة التي يقارب بها بعض العرب التصعيد الإسرائيلي الخطير في المنطقة، ما نحن بصدده جَدٌّ لا يحتمل الهزل. من ثمَّ، لا ينبغي أبداً الركون إلى كراهية (لها ما يُبرّرها)، وإلى غرائزَ انتقاميةٍ (مفهومة من بعضهم نحو إيران وحزب الله جرّاء جرائمهما في سورية والعراق وفي غيرهما من الدول العربية)، وحسب. يكتفي الحانقون على إيران وحزب الله بالجلوس على مقاعد المتفرّجين مُتَشفّينَ وشامتين، متغاضين طوعاً عن حقيقة أنّ إسرائيل لم تكن، ولن تكون، أقلّ إجراماً بحقّهم، وأنّها لن تنصرهم أبداً. أمّا بعض أركان النظام الرسمي العربي، أو من يعتبرون أنفسهم "محور الاعتدال" فيه، فهم يرتكبون خطيئةً استراتيجيةً إنْ هم ظنّوا أنّهم سيكونون شركاءَ في أيّ نصر مُتَوَهَّم للولايات المتحّدة وإسرائيل ضدّ ما يعدُّونه إيران ومحورها. إنّ ما يراد للمنطقة إسرائيلياً وأميركياً يمضي أبعدَ من هزيمة إيران ومحورها، ليصل إلى حدّ محاولة إحداث زلزال فيها، يعيد تشكيلها جيوسياسياً لتتماشى مع مصالحهما، وتصريحات مسؤولي الطرفَين لا تحاول التعتيم على هذا الهدف الخبيث. إنّنا أمام مرحلة تشابه ما جرى بعد الهزيمة العربية أمام إسرائيل في يونيو/ حزيران 1967.

الانتصار الإسرائيلي الساحق عام 1967 أعاد صياغة المقاربة الأميركية نحو الدولة العبرية، ونحو المنطقة ككل

نشر موقع بوليتيكو الأميركي، الاثنين الماضي، تقريراً عن ضوءٍ أخضرَ أميركي لإسرائيل لتوسيع الهجوم العسكري على لبنان. وجاء فيه أنّ المستشاريْن الأقربيْن إلى الرئيس جو بايدن، فيما يتعلّق بصياغة السياسة الأميركية نحو الشرق الأوسط، عاموس هوكشتاين وبريت ماكغورك، أخبرا مسؤولين إسرائيليين في منتصف الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) أن واشنطن تدعم مساعي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو شنّ هجمات أشدَّ قسوة ضدّ حزب الله لإرغامه على التفاوض لوقف إطلاق النار في جانبي الحدود. لم يمضِ يومان حتّى فجّرت إسرائيل آلاف أجهزة "البيجر" وأتبعتها بتفجير أجهزة اتصال لاسلكي يحملها عناصر من حزب الله، ومدنيون، أسفرت عن عشرات الضحايا ومئات الجرحى. ولم تتوقّف إسرائيل عند ذلك الحدّ، إذ مضت في عمليات قصف واسعة في لبنان، شملت الضاحية الجنوبية للعاصمة بيروت، وكذلك موجة من الاغتيالات لقادة كبار في الحزب، وصلت إلى حدَّ اغتيال أمينه العام حسن نصر الله الأسبوع الماضي. وذلك كلّه كان بضوءٍ أخضرَ أميركي غير مُعلَن، في الوقت الذي كان فيه أركان إدارة بايدن، بدءاً من الرئيس نفسه، يطالبون بضبط النفس وضرورة التوصّل إلى وقف لإطلاق النار.
يذكّرنا سلوك إدارة بايدن هنا بما فعلته إدارة ليندون جونسون عام 1967، وهذا موثّق في وثائق أميركية رُفِعت السرّية عنها قبل سنوات قليلة، أن المعلومات لدى تلك الإدارة كانت مُؤكَّدةً أنّ مصر لا تنوي شنَّ هجوم استباقي على إسرائيل بعد قرار الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، في مايو/ أيّار 1967، إخراج القوات الأممية المرابطة في شبه جزيرة سيناء، وإغلاق خليج العقبة ومضيق تيران أمام السفن الإسرائيلية، بناءً على معلومات سوفييتية وصلت إلى عبد الناصر عن نيّة إسرائيل شنَّ هجوم مفاجئ على سورية. وتفيد الوثائق نفسها بأنّ قرار عبد الناصر إرسالَ مزيدٍ من القوات والآليات والطائرات المقاتلة إلى سيناء كان "استعراضياً" بالدرجة الأولى، منطلقاً من توجّسه من اهتزاز صورته وتراجع شعبيته في الشارعين المصري والعربي. ورغم أنّ الوثائق تُؤكّد أنّ إدارة جونسون سعت إلى تثبيط إسرائيل من شنِّ هجوم مباغت على مصر وسورية والأردن، وتشديد الإدارة أنّها لن تقبل بالانجرار إلى حرب تفتعلها إسرائيل، إلّا أنّها قامت بتعزيز أصولها العسكرية في المنطقة بذريعة ردع أيّ تدخّل سوفييتي. ما حدث بعد ذلك معروف، إذ شنّت إسرائيل عدواناً على مصر وسورية والأردن، بدعم أميركي، واحتلّت مساحاتٍ واسعةً من أراضيهم، وفرضت واقعاً جيوسياسياً جديداً في المنطقة ما زالت تئن تحت وطأته إلى اليوم.
اللافت هنا أنّ الانتصار الإسرائيلي الساحق عام 1967 أعاد صياغة المقاربة الأميركية نحو الدولة العبرية، ونحو المنطقة ككل. كانت الضحية الأولى لذلك النصر الكارثي مبدأ ترومان (نسبة للرئيس هاري ترومان)، الصادر عام 1950، أو ما يُعرَف بـ"الإعلان الثلاثي" مع بريطانيا وفرنسا، الذي هدف إلى الحفاظ على الوضع القائم بين الدول المتصارعة، واحترام خطوط اتفاقات الهدنة بعد الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، ومنع تغييرها بالقوة، والحدّ من تدفّق الأسلحة إلى الشرق الأوسط. وانتهى الأمر بإدارة جونسون إلى صكِّ مبدأ جديدٍ عنوانه "الأرض في مقابل السلام"، وهو الأمر الذي تطوّر اليوم "سلاماً في مقابل السلام". لم يكن ذلك التغيير الوحيد في المقاربة الأميركية نحو المنطقة بعد الهزيمة العربية عام 1967، إذ أثار الانتصارُ الإسرائيلي إعجابَ الأميركيين، وجعلهم ينظرون إليها حليفاً قوياً يمكن الاعتماد عليه في المنطقة.
الأمر نفسه نراه يحدث اليوم بعد عملية طوفان الأقصى، التي شنّتها حركة حماس العام الماضي (2023)، إذ سارعت إدارة بايدن إلى تقديم أشكال الدعم العسكري والسياسي والديبلوماسي غير المسبوق (حتّى أميركياً) إلى إسرائيل. لم تكتفِ واشنطن بذلك، بل أرسلت إلى المنطقة حاملتَي طائرات مع مجموعتيها المقاتلتَين، وغوّاصة نووية استبدلت بها (بعد ذلك) غوّاصةً تحمل صواريخ موّجهة، ومزيداً من الجنود وأسراب الطائرات الحربية، بهدف "ردع" إيران وأذرعها في المنطقة عن شنَّ هجمات على إسرائيل، خلال انشغال الأخيرة في إبادة قطاع غزّة. لم تفلح تلك الجهود في "الردع" المطلق، وإن كانت لجمت إلى حدّ كبير جبهات الإسناد لغزّة، بما في ذلك لبنان. في المقابل، عبثاً حاولت إدارة بايدن كبحَ جماح إسرائيل وجنونها في قطاع غزّة ولبنان، والمنطقة كلّها، وفشلت إلى اليوم في إنجاز وقف إطلاق نار (مُؤقَّت أو دائم)، وفي تحقيق صفقة تبادلٍ للأسرى مع المقاومة الفلسطينية. على العكس من ذلك، حرصت إسرائيل على التصعيد المُستمرّ وعلى جرِّ الولايات المتّحدة أكثر فأكثر إلى الصراع في المنطقة، سواء عبر استهداف إيران، ثمَّ اغتيال قادةٍ عسكريين كبار في حزب الله، وصولاً إلى اغتيال رئيس المكتب السياسي السابق لحركة حماس إسماعيل هنيّة في قلب طهران، أواخر شهر يوليو/ تموز الماضي، وبعد ذلك حسن نصر الله. وكانت وسائل الإعلام الأميركية أشارت، مطلع أغسطس/ آب الماضي، إلى ما وصفتها بـ"محادثة صعبة" جرت بين بايدن ونتنياهو وبّخ فيها الأول الثاني بسبب اغتيال هنيّة وحذّره من أنّ الولايات المتحدة لن تأتي دوماً لنجدته وإطفاء الحرائق التي يشعلها في المنطقة، كما جرى في إبريل/ نيسان الماضي، عندما قادت واشنطن تحالفاً عربياً ودولياً للتصدّي للهجوم الإيراني الانتقامي على إسرائيل، ردّاً على مهاجمة قنصليتها في دمشق. إلّا أنّه لم تمضِ أيام وأسابيع على تلك "المحادثة الصعبة"، إلّا وكانت الولايات المتّحدة تقرّ مزيداً من صفقات الأسلحة والمساعدات العسكرية لإسرائيل، بقيمة تتجاوز (منذ ذلك الحين وإلى الآن) 32 مليار دولار.

المحاولات الأميركية الإسرائيلية الراهنة لتشكيل المنطقة جيوسياسياً ستفشل، لكنّ التضحيات ستكون كبيرة جدّاً، وتتطلّب وعياً أكبر

الأخطر تلك القناعة التي بدأت تترسّخ لدى عدد من صنّاع القرار الأميركي بأنّ نتنياهو كان محقّاً في التصعيد في المنطقة، إذ إنّه تمكّن من إجهاض كثير من قدرات المقاومة الفلسطينية، ثمَّ بعد ذلك حزب الله، فضلاً عن فرض معادلة "ردعٍ ذاتيٍّ" على إيران. ويجادل هذا الفريق بأنّ ثمَّة فرصة لإعادة تشكيل المنطقة جيوسياسياً عبر القوة وليس "السلام" بالضرورة، بعد أن كان يُفترَض أنّ جلب السعودية إلى اتفاقات أبراهام سيحدث تغييراً جيوسياياً مُدوّياً لصالح إسرائيل والولايات المتّحدة. ولعلّ في الدعم الأميركي اليوم لشرط إسرائيل الجديد المتمثّل في نزع سلاح حزب الله، وليس إبعاد قواته فقط شمال نهر الليطاني، ما يُوضّح المقصود. ما سبق لا يعني أنّ المقاربة الأميركية قد حُسِمت لصالح التغيير عبر القوة المُفرِطة، في مقابل مقاربة المزاوجة بين القوة والديبلوماسية، إلّا أنّنا نشهد إرهاصاتِ التحوّل نحو الثانية على حساب الأولى.
في أيّ حال، فإنّ كلتا المقاربتَين تقومان على وجود منتصر ومهزوم، والطرف العربي، بما فيه "محور الاعتدال"، ينظر إليه أميركياً وإسرائيلياً على أنّه في الجانب المهزوم، وسيتم التعامل معه تابعاً لا شريكاً إن تحقّق ما تريده واشنطن وتلّ أبيب. هل هذه دعوة إلى اليأس؟ ... كلَّا، ولكنّها جرس إنذار، فكما فشلت جهود إخضاع المنطقة وإرغامها على قبول محاولات الصياغة بعد عام 1967، وكذلك المحاولات التالية بعد غزو العراق واحتلاله أميركياً عام 2003، فإنّ محاولات التشكيل الجيوسياسي الراهنة ستفشل، ولكنّ التضحيات ستكون كبيرة جدّاً، وتتطلّب وعياً أكبرَ.