الهرم المصري المقلوب
الدرس الأول في عالم الصحافة والتحرير كان بعنوان "الهرم المقلوب"، وهو تعبير يختصر الشكل الأساسي لبناء الخبر الصحافي عبر ترتيب عناصره من الأهم إلى الأقل أهمية. والشكل الهرمي هذا لا بد أن يأخذنا إلى مصر وعاصمتها، باعتبارها حاضنة الأهرامات الأهم في العالم. هذه الأهرامات كان من المفترض أن تكون شاهدة على حضارة عريقة مستمرة وممتدة، إلا أن ممارسات النظام الحاكم قلبت هذا الهرم وما يمثله ومنطقه وأساسياته، ليصبح "الهرم المقلوب" اليوم رمزاً للممارسات التي تحدث في مصر.
أحدث هذه الممارسات كانت المحاكمات التي أقيمت بحق معارضين، وما ترافق معها من قرارات عفو حملت مفاجآت كثيرة صادمة لكل من يتابع الوضع السياسي في مصر. إحدى هذه المحاكمات خلصت إلى إنزال عقوبة السجن المشدد بحق رئيس حزب مصر القوية، المرشح السابق للانتخابات الرئاسية، عبد المنعم أبو الفتوح، ونائبه محمد القصاص. سجن مشدد تراوح بين عشرة وخمسة عشر عاماً في تهم ملخصها معارضة النظام الحاكم ورئيسه عبد الفتاح السيسي. لم يرتكب أي من الاثنين جرائم تستحق هذا العقاب، لكن في "مصر الحديثة" لا صوت يعلو على صوت النظام، ولا مكان لأصوات مغايرة لما يصدح به الرئيس وحاشيته، وهو ما يعانيه أبو الفتوح والقصاص وآلاف غيرهم من المعارضين الذين زجّوا بالسجون في أعقاب الانقلاب العسكري في الثالث من يوليو/ تموز 2013.
بالتزامن مع هذين الحكمين الجائرين بحق هذين المعارضين، كان النظام المصري يشرع أبواب السجن لإخراج أحد المجرمين الحقيقيين الذين ارتكبوا واحدة من أفظع جرائم القتل التي شغلت العالم العربي لمدة من الزمن. فتحت عنوان "العفو العام"، قرّر النظام المصري الإفراج عن الضابط السابق محسن السكري، المدان بقتل المغنية اللبنانية سوزان تميم في دبي بعد قضائه 13 عاماً في السجن، وهو الذي كان محكوماً بالإعدام قبل أن يُخفف الحكم إلى 28 سنة سجناً مشدّداً من محكمة النقض. لكن هذا لم يمنع النظام من التغاضي عن كل تفاصيل الجريمة، والتي باتت معروفة بوحشيتها، وإسقاط الاعتراف الذي أدلى به السكري في النيابة العامة، والعفو عنه وكأن شيئاً لم يكن. كيف لا، وهو الذي سبق أن أفرج عن المحرّض على الجريمة هشام طلعت مصطفى في 2020 بعد ثماني سنوات فقط من سجنه الذي كان من المفترض أن يكون مؤبداً، في مقابل حفنة من الدولارات قدّمها مصطفى للنظام، وربما قدّم مثلها اليوم لإخراج شريكه في الجريمة من السجن.
وقبل السكري ومصطفى، سار النظام على الدرب نفسه تجاه مجموعة من رموز الفساد، الذين حظوا بأحكام مخففة بعد عمليات تصالح أكسبت النظام أيضاً ملايين الدولارات، وهي المقياس الأساس الذي يبدو أنه يحكم الأفعال والأحكام في "مصر الحديثة". ومع أن مصر ليست وحدها التي تحكمها مقدرات رؤوس الأموال، إلا أنها الأوضح في دولة من المفترض أن تحكمها "المؤسسات"، وهوما يتبجح به دائما المسؤولون الإعلاميون في أرض الكنانة.
هذه هي المعايير السياسية والاجتماعية والأخلاقية التي تحكم عمل النظام في مصر اليوم. معايير مقلوبة رأسا على عقب، فأي رسائل يمكن أن توجهها هذه القرارات إلى المجتمع؟ الرسالة الأوضح التي يمكن أن يتلقفها كل من يعيش في مصر أن بإمكانه أن يقوم بكل ما يشاء من الموبقات. وفي النهاية، قد يحظى بتعاطف النظام وعفوه، باستثناء أن يقدم على أي فعل من أفعال المعارضة السياسية بأي شكل.
هذا قد يكون ملخص "الهرم المصري" الذي انقلب يوم الثالث من يوليو على كل الأفكار والتطلعات التي قامت عليها ثورة 25 يناير، والتي كانت في يوم من الأيام رمزاً، قبل أن تتحول إلى تهمة.