هذه الدول اللبنانية
ليس الكلام عن الانقسام الداخلي اللبناني جديداً، فعمره من عمر إقامة الدولة على أسس طائفية، ما لبثت أن تحوّلت إلى مذهبية، وكبرت مع الوقت، حتى انفجرت حرباً أهلية استمرّت أكثر من 15 عاماً. غير أن نهاية الحرب لم تؤسّس لدولة، بل لدولٍ ظهرت ملامحها في أكثر من مرحلة من مراحل السياسة اللبنانية ما بعد اتفاق الطائف، وهي اليوم تتجلى في ظل العدوان الإسرائيلي الواسع على لبنان، الذي قتل الآلاف وهجّر أكثر من مليون لبناني، ودمّر مساحات واسعة من القرى والمدن التي باتت غير قابلة للعيش.
على الرغم من أن أكثر من نصف مساحة البلاد تقريباً بات شبه خالٍ من سكّانه بفعل القصف الإسرائيلي وأوامر الإخلاء، والحديث هنا عن معظم مساحة الجنوب اللبناني وكثير من قرى البقاع، إضافة إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، فإن مدارس عديدة في المناطق التي يعتقد القائمون عليها أنها آمنة، قرّرت فتح أبوابها وإطلاق العام الدراسي حضورياً وليس عن بعد، وكأن ما يحصل في الجزء الآخر من البلد لا يعنيها، وأنها معفيةٌ من التداعيات المترتبة عليه، ضاربة عرض الحائط بسلامة تنقلات الطلاب الذين يسلك كثيرون منهم طرقاً معرّضة للاستهداف، بفعل قربها مما يعتقد الاحتلال أنها "معاقل" لحزب الله أو مراكز تجمّع لأفراده.
والأمر لا يقتصر على منطقة بعينها، فبحسب التقسيم الجغرافي اللبناني، الناتج أيضاً من الحرب الأهلية والتهجير الذي رافقها، فإن لكل منطقة أو قضاء هوية طائفية أو مذهبية معينة، تتبع اسمياً للدولة اللبنانية، لكنها تُدار فعلياً من أمراء الطوائف والمذاهب الكثر على الأراضي اللبنانية. ويبدو، برأي هؤلاء، أن العدوان الإسرائيلي يستهدف طائفة بعينها، وبالتالي، فهم ومعظم مناطقهم آمنون نسبياً لاستكمال حياتهم الطبيعية.
من المفهوم أن تستمرّ الحياة العملية اليومية لتأمين لقمة العيش في بلدٍ يعاني أهله اقتصادياً، لكن من غير المعقول المضي في مساراتٍ من المفترض أنها موحدة وتتبع لقوانين الدولة اللبنانية، على غرار التعليم، في وقتٍ تتعطل العملية الدراسية في غالبية مدارس البلاد المكتظة بآلاف النازحين.
على عكس الصورة التي يحاول بعض وسائل الإعلام اللبنانية تصديرها عن التعاضد الوطني في مواجهة العدوان واستقبال النازحين، ليس واقع الأمر وردياً إلى هذا الحد، بل إن مناطق عديدة خارج العاصمة بيروت ترفض استقبال اللاجئين من طائفة معينة. وقد كان هذا الأمر قائماً في مناطق كثيرة قبل العدوان، وقبل الاستهداف المباشرة للطائفة الشيعية، فإدارات محلية عديدة أصدرت قرارات بمنع تأجير أو بيع مساكن للبنانيين من طائفة مغايرة لنسيج المنطقة، وذلك تحت مرأى ومسمع الدولة اللبنانية التي فضلت عدم التدخل حرصاً على الحسابات الطائفية.
كانت ظاهرة الدول اللبنانية داخل الدولة سائدة خلال الحرب الأهلية، وكان التقسيم قائماً فعلياً في عموم البلاد التي كانت محكومة من مليشيات في غياب الدولة. ومع نهاية الحرب، يبدو أن هذه الدول استمرّت في الحياة سراً، ولم يظهر منها إلا تلك التي أنشأها حزب الله لاحقاً الذي أسس دولته ومؤسساته الاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والصحية في المناطق التي تخضع لسلطته، واستمرّت في العمل حتى العدوان الحالي. لكن هذه الدول عادت إلى الظهور، ونفضت الغبار عن مشاريع كان من المفترض أنها اندثرت، وتجارب كان من المفترض أنها فشلت.
لبنان ما بعد العدوان، والذي لا أحد يعلم أو يمكن أن يتوقع متى ينتهي أو كيف، سيكون أمام واقع جديد يحمل في طياته خطورة كبيرة على شكل البلد وسلمه الأهلي.