الهدنة ومسار الحرب
يعيش مئات آلاف الغزّيين اليوم على وقع الحديث المتصاعد عن احتمال التوصل إلى اتفاق يوقف الحرب، على الأقل لفترة مؤقتة طويلة نسبياً، في إطار صفقة تبادل أسرى بين "حماس" ودولة الاحتلال. لا شيء مضموناً بعد في هذا السياق، بانتظار المداخلات والموافقات والشروط المتبادلة التي يتولى الوسطاء نقلها، لكن القابعين اليوم تحت نير آلة القتل الإسرائيلية يمنّون النفس بأخبار إيجابية تعيد إلى غزة، أو ما تبقى منها، جزءاً من حياتها الطبيعية.
حساباتٌ كثيرة في هذه المفاوضات تفتحها على كل الاحتمالات. أعقد هذه الحسابات هي المتعلقة بالحكومة الإسرائيلية والقيادات الأمنية. من الواضح أن هناك انقساماً حاداً في الدولة العبرية حول كيفية التعاطي مع الصفقة المفترضة. انقسام إسرائيلي ثلاثي الأبعاد، الأول مؤيد للصفقة يقوده وزير الحرب السابق بيني غانتس على خلفية الحاجة إلى الإفراج عن الأسرى الموجودين في قطاع غزّة، حتى لو أدى ذلك إلى وقف القتال فترة وإطلاق مئات الفلسطينيين من السجون الإسرائيلية، الأمر الذي يعارضه التيار اليميني المتشدد في الحكومة، ممثلاً بإيتمار بن غفير، وبتسلئيل سموتريتش الذي يهدّد بتفكيك الائتلاف الحكومي، ما يعني اللجوء إلى انتخابات مبكرة، وهو ما لا يريده أحد في وقت الحرب.
التيار الثالث يمثله رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو الذي يسعى إلى صفقة لا تنتهك ما يسمّيها "الخطوط الحمراء"، أي فرض الشروط الإسرائيلية وتأمين الإفراج عن الأسرى، وهو ما يعقّد احتمال التوصل إلى اتفاق. شروط نتنياهو تتمحور حول ثلاث نقاط أساسية: وقف الحرب، وانسحاب الجيش من القطاع، والإفراج عن آلاف الأسرى الفلسطينيين، إضافة إلى عدم وقف إطلاق النار أكثر من شهر.
شروط كهذه لا تترك مجالاً للتفاؤل في عقد الصفقة، خصوصاً أنها تناقض ما تطلبه "حماس"، والتي تشهد أيضاً خلافات حول الصفقة. ففي حين يريد القادة الميدانيون إنهاء كاملاً للعدوان، يضغط المستوى السياسي في الحركة لإبداء بعض الليونة في الشروط، وهو ما أنتج، بحسب التسريبات، قبولاً من رئيس الحركة في غزّة، يحيى السنوار، على وقف إطلاق النار لأسابيع. غير أن ما خرج من اجتماع حكومة الحرب الإسرائيلية، الخميس، أي شروط نتنياهو، يعيد الأمور إلى النقطة صفر.
لكن، وعلى رغم هذه المستجدات التي توحي بأن الصفقة في طريقها إلى الانهيار، تبقى هناك عوامل قد تعدل الوضع، أساسها الرغبة الأميركية في الوصول إلى وقف إطلاق النار، وهو ما سيحمله وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في جولته الخامسة في المنطقة منذ بداية الحرب، والتي تبدأ اليوم. حسابات كثيرة تحكم الرغبة الأميركية، في مقدّمتها الانتخابات الرئاسية المرتقبة في الخريف المقبل، والتي يبدو أن وضع الرئيس الأميركي، جو بايدن، غير مريح فيها، والذي بدأ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة يزيده تعقيداً، خصوصاً في أوساط الشباب والجاليات العربية والمسلمة.
كذلك فإن الإدارة الأميركية باتت قلقة جداً من توسّع الحرب، بعد الضربات التي تلقتها على الحدود السورية الأردنية ودفعتها إلى الرد بضربات في سورية والعراق، إضافة إلى ما تثيره تحركات الحوثيين في اليمن من اضطراب عالمي.
على هذا الأساس ستكون الأنظار متجهة إلى جولة بلينكن لتحديد مصير الصفقة. ويبدو أن الوزير الأميركي في جعبته مطالب محددة من الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني. وبحسب المعطيات فإن المطالب الموجهة لإسرائيل هي الشروع في التفاوض على صفقة التبادل، وإنهاء الاجتياح البري لقطاع غزة، والسماح بدخول كميات كافية من مواد الإغاثة الإنسانية، والاستعداد لعملية سياسية إقليمية تقوم على حل الدولتين. أما المطالب الموجهة إلى القيادة الفلسطينية فهي القيام بإصلاحات جدّية، وتشكيل حكومة جديدة أكثر مهنية وتمثيلاً، وقادرة على إدارة قطاع غزة بعد الحرب، وأيضاً الاستعداد لعملية سياسية.
الأيام المقبلة ستكون حاسمة لصفقة التبادل، وأيضاً لتحديد مسار الحرب والأيام التي ستليها.