الهجرة غير النظامية... الملفّ القديم المعاد في انتخابات أميركا
أصدرت محكمة في ولاية أوهايو، الشهر الجاري (أكتوبر/ تشرين الأول)، قراراً بترحيل المهاجر الفنزويلي ليونيل مورينو. كان قراراً متوقَّعاً وطبيعياً في سياق حملة التحريض التي أطلقها المهاجر غير النظامي، الذي قطع الحدود الجنوبية، ودعا المهاجرين عبر منصّة تيك توك إلى استخدام ثغرةٍ قانونيةٍ تتيح لهم غزوَ المنازلِ والأبنية غير المأهولة والاستيلاء عليها، ضمن ما يعرف في الولايات المتّحدة بـ"سكواترز" (Squatters)، أو محتلّي المنازل المهجورة بشكل غير قانوني، وصدّق أو لا تصدّق فالقوانين الأميركية، وفي ولاياتٍ عديدة، تتيح لهؤلاء المُحتلّين امتلاك هذه المنازل المهجورة ضمن شروط معينة، وإنْ كانوا من غير المالكين، ولا حتّى المستأجرين.
كان فيديو مورينو فرصةً لحكّام الولايات الجمهورية لإبراز العضلات عبر تمرير قرارات تقضي بتجريم عمليات احتلال المنازل المتروكة، رغم أنّ هذه المشكلة مستمرّة منذ عقود طويلة، ومنح هؤلاء الشرطةَ سلطةَ التعامل مع إخراجهم من دون العودة إلى المحاكم، التي تُعطّل عملية الإخلاء أسابيع أو أشهر، إذا ما وجد المالك منزله قد احتلّ بالفعل، وبالتزامن مع هذه التحرّكات غطّت وسائل الإعلام الأميركية، وخصوصاً المحافظة منها، أخباراً لا تحظى بالعادة بكثير من الاهتمام منها، ركّزت على عمليات قتل تعرّض لها مُلَّاك منازلَ بيد مُحتلّين، وأخرى على قرارات من قضاة في ولايات ذات طابع ليبرالي ديمقراطي، منعت المالك من الاقتراب من ملكيته العقارية تنفيذاً لقوانين الاستحواذ المعاكس التي تستهدف عند سنّها (قبل عقود عديدة) تحقيقَ أكبر إنتاجية من الأرض أو العقار.
ومع التغطية التي رافقت فيديو المهاجر الفنزويلي، عمّت حالةٌ من الاتهامات والغضب وسائل الإعلام الاجتماعي، استهدفت المهاجرين غير النظاميين، وتحديداً الذين دخل منهم (خلال السنوات 2021 - 2023)، أكثر من خمسة ملايين مهاجر، بحسب موقع ستاتيستا للإحصاءات، وردّد المُعلّقون تصريحاتٍ عديدةً تطالب بطرد هؤلاء المهاجرين مع نقل قصصٍ عديدةٍ عن جرائم ارتكبوها، ترافقها انتقاداتٌ لتساهل غير معقول مع الهجرة عبر الحدود.
لا توجد بوادر حقيقية من الحزبَين الأميركيَين، ولا حتّى من مُرشَّحيهم، لحلّ مشكلة ملايين المهاجرين غير النظاميين
ومع تبقّي نحو 40 يوماً على الانتخابات، يمثّل ملّف الهجرة غير النظامية صدعاً كبيراً يقسّم الناخبين ما بين الحزبين، ففيما يُؤكّد الديمقراطيون الحقّ الإنساني في اللجوء واحتواء المهاجرين، وإن كانوا غير نظاميين، فإنّ الجمهوريين في الجانب الآخر تنتابهم ريبة كبيرة من المهاجرين، ويذهب كثير منهم إلى أنّ المهاجرين سيغيّرون شكل أميركا التقليدية إلى الأبد، وسط شكّ في مشاركة عدد منهم في الانتخابات من دون سند قانوني. ومع هذا الانقسام يتطرّف الفريقان في ملفّ التعاطي معهم، ففيما عمل الليبراليون لسنّ العديد من القوانين والأنظمة التي تتيح دمج المهاجرين في النظام الاقتصادي، وبالغوا إلى حدّ منحهم امتيازاتٍ مالية لا تُعطى حتّى للأميركيين، جاء المُرشَّح الجمهوري دونالد ترامب ليتعهّد بأكبر عملية ترحيل للمهاجرين غير النظاميين في تاريخ الولايات المتّحدة خلال الأيّام الأولى من تولّيه الرئاسة.
لكن السؤال الأكثر أهمّيةً، الذي يغيب عن بال كثير من الأميركيين: هل المهاجرون غير النظاميين مُهمُّون للنظام الاقتصادي أم أنّهم يعملون بالفعل على الاستحواذ على المليارات من مخصّصات الإعانة الاجتماعية، ويمثّلون عالةً على الاقتصاد كما يقول معارضو وجودهم؟ ... وردَّاً على ذلك علينا التوقّف عند بعض أرقام مهمّة توضّح حجمَ هذا الملفّ المُؤجَّل والمُرحَّل بين الإدارات. يوجد حالياً في الولايات المتّحدة ما بين 12 - 13 مليون مهاجر غير نظاميين لا يمتلكون حقّ الإقامة الدائمة الرسمية، يعمل ثمانية ملايين و300 ألف مهاجر منهم في مهن عديدة، وفقاً لمعهد بيو، وتتركّز وظائف هؤلاء المهاجرين في قطاعات لا تتطلّب كثيراً من المهارات أو التحصيل الدراسي كقطاع تنظيف المكاتب والأبنية، وكذلك قطاع البناء، وغيرهما.
ووفقاً لمعهد السياسة الضريبية والاقتصادية (منظمة غير سياسية ولا ربحية)، فإنّ المهاجرين غير النظاميين دفعوا في العام 2022 نحو 96.7 مليار دولار في هيئة ضرائب فيدرالية ومحلّية، ذهب معظم هذا المبلغ (59.4 مليار دولار)، إلى الحكومة الفيدرالية، بينما دُفِع المبلغ المتبقّي (37.3 مليار دولار)، إلى حكومات الولايات والحكومات المحلّية. بعبارة أخرى، فإنّ مقابل كلّ مليون مهاجر غير مسجَّلٍ يقيم في البلاد، تتلّقى الخدمات العامة 8.9 مليارات دولار من عائدات الضرائب الإضافية. ويذهب أكثر من ثلث أموال الضرائب التي يدفعها المهاجرون غير النظاميين إلى تمويل برامجَ اقتصاديةٍ ذات طابعٍ اجتماعي مخصّصة للأميركيين وحاملي الإقامة الدائمة، ولا يحقّ لهم الوصول إليها لعدم امتلاكهم الحقّ القانوني في ذلك، ومنها 25.7 مليار دولار تُدفَع إلى برنامج الضمان الاجتماعي لكبار السنّ، و6.4 مليارات دولار إلى الرعاية الطبّية، و1.8 مليار دولار إلى ضرائب التأمين ضدّ البطالة.
وفي سيناريو مستقبلي مُتخيَّلٍ، يدور بشأن منح تصاريح العمل لجميع المهاجرين غير النظاميين الموجودين في أميركا، يشير معهد السياسة الضريبية والاقتصادية إلى أنّ مساهماتهم الضريبية ستزيد في هذه الحالة بمقدار 40.2 مليار دولار سنوياً لتصل إلى 136.9 مليار دولار، معظمها ستذهب إلى الحكومة الفيدرالية، بينما ستزيد حصّة الولايات من الضرائب أكثر من سبعة مليارات دولار.
وبخصوص الاتهامات الدائمة من المحافظين للمهاجرين عموماً، وغير النظاميين منهم خصوصاً، بشأن ارتفاع نسب الجرائم التي يرتكبونها في الولايات المتّحدة، وجدت العديد من الدراسات الأكاديمية والرسمية أنّ مُعدَّلات الجريمة بين المهاجرين غير النظاميين تُعَدُّ الأقلّ في الولايات المتّحدة، إذ إنّ عدد الجرائم المرتكبة من قبل المولودين في الولايات المتّحدة من الأميركيين يُعَدُّ أعلى بكثير من عدد تلك المُرتكَبة من المهاجرين النظاميين، فيما يتذيّل المهاجرون غير النظاميين فرصَ ارتكاب الجرائم لأسباب على رأسها الحرص على إبقاء ملفّاتهم نظيفة وخالية من المعرقلات للحصول على الإقامة، وبعدها حقّ الجنسية، وهذا لا يعني أنّ المهاجرين غير النظاميين لا يرتكبون جرائم في الولايات المتّحدة، بل إنّ بعضاً من هذه الجرائم وخصوصاً عمليات القتل، تسبَّبت بصدمات في بعض الولايات، قد تُحدِث تغييراً في المزاج العام تجاه الحزب الديمقراطي، المتَّهم بالتساهل في التعامل مع هذا الملفّ.
تحتاج الولايات المتّحدة إلى 13 ألف دولار لكلّ مهاجر لتنفيذ وعد المرّشَّح دونالد ترامب بترحيل المهاجرين
ولا توجد أيّ بوادر حقيقية من الحزبين الأميركيين، ولا حتّى مُرشَّحيهم، لحلّ مشكلة الملايين من المهاجرين غير النظاميين، فمُرشَّحة الحزب الديمقراطي كامالا هاريس، التي تعهَّدت قبل سنوات برفع القيود التي تجرّم المهاجرين العابرين للحدود، لزمت الصمت هذه المرّة حفاظاً على أصوات العديد من الأميركيين الغاضبين من "احتلال" المهاجرين غير النظاميين مدنهم، وخصوصاً في معاقل التيّار الليبرالي؛ نيويورك سيتي ولوس أنجليس، وغيرهما من مدن ولاية كاليفورنيا، فيما تبدو خطط ترامب للترحيل المليوني غير واقعية بالمرّة لأسباب لوجستية واقتصادية. وهنا علينا الإشارة إلى أنّ تقديرات معهد كارنيغي تشير إلى أنّ كلفة ترحيل المهاجر غير النظامي الواحد تصل إلى 13 ألف دولار، الأمر الذي يعني حاجة الولايات المتّحدة إلى مليارات الدولارات لتنفيذ الوعد الترامبي، ناهيك عن الأزمة الإنسانية التي تُخلّفها عمليات الترحيل، إذ إنّ 4.4 ملايين طفل في الولايات المتّحدة ولدوا ويعيشون مع عائلات تحوي مهاجراً غير نظامي.
وبالعودة إلى قرار ترحيل المهاجر الفنزويلي ليونيل مورينو، الذي عبر الحدود الجنوبية رفقة طفله وزوجته، فإنّ سلطات الولايات المتّحدة الفيدرالية لم تتمكَّن من تنفيذ قرار الترحيل القضائي بعد، رغم احتجازه في إحدى مؤسّساتها، وذلك بسبب إيقاف الحكومة الفنزويلية اتفاقات مع أميركا تسمح بإعادة المهاجرين إليها، على خلفية الانتقادات والاتهامات الأميركية بتزوير الانتخابات أخيراً. وهذا المثال يمكن أن ينعكس في العديد من قرارات الترحيل، وخصوصاً من الدول التي ترفض استقبال مواطنيها من الولايات المتّحدة.