النهضة أم الشريعة بعد الربيع العربي؟
ارتكز خطاب الحركات الدينية "الجهادية" التي ملأت الفضاء العربي والإسلامي، خلال العقود الثلاثة الأخيرة، على القول بإقامة دولة إسلامية كبيرة منيعة، تحقّق مجد المسلمين وعزتهم بين أمم العالم، أي أن القضية التي تبنتها تلك الحركات، ودفعتها إلى كل ما فعلته، لم تكن تطبيق الشريعة من عدمه، أو إقامة الحاكمية لله أم للبشر، وإنما هي مشروع "نهضوي" كبير، يتجاوز مسألة ما يطبّق من أحكام.
الترابط بين فكرة النهضة (إقامة دولة توفر رغد العيش لرعاياها، وتكون ذات مكانة وحضور على المستوى العالمي) ومسألة تطبيق الشريعة، ظلّت حاضرة في طروحات (وبرامج) الحركات الإسلامية المختلفة، الفكرية والسياسية، منذ ظهرت دعوات الإصلاح الديني ذات المرامي النهضوية في منتصف القرن التاسع عشر، مروراً بظهور الأحزاب والحركات السياسية ذات المرجعية الإسلامية، وأهمها جماعة الإخوان المسلمين، وصولاً إلى الحركات التكفيرية التي قيل إنها خرجت من عباءة "الإخوان"، أو تلك التي ظهرت في العقود الأخيرة تحت مسمّى "السلفية الجهادية"، فجميعها قالت إنها تتطلع إلى إقامة النهضة، لكنها جميعها طرحت الموضوع من باب تطبيق الشريعة وإعادة الحاكمية لله.
يستدعي ذلك الترابط التساؤل عن حقيقة الهدف النهائي لتلك الحركات السياسية الدينية: هل هو تطبيق الشريعة؟ بينما دعايتها القائلة إنها تريد تطبيق الشريعة لتكون سبيلاً إلى جلب نصر الله وإعادة المسلمين إلى أمجادهم، على قاعدة "إن تنصروا الله ينصركم"، كانت مجرّد ادّعاء كاذب، بمعنى أنها استخدمت فكرة النهضة وسيلة لتحقيق تطبيق الشريعة؟ أم أن قضية النهضة تعنيها حقاً، وهي هدفها النهائي الحقيقي، أما تطبيق الشريعة فلم يكن إلا وسيلتها؟!
ليس موضوعياً الخلط بين جميع الحركات والتيارات الإسلامية، واعتبارها تنطلق من نيات واحدة وأهداف نهائية متشابهة
ليس موضوعياً الخلط بين جميع الحركات والتيارات الإسلامية، واعتبارها تنطلق من نيات واحدة وأهداف نهائية متشابهة، فجماعة الإخوان المسلمين انخرطت سنوات طويلة، قبل ثورات الربيع العربي، في المشاركة السياسية في دول عربية عديدة، حتى لم يعد في برامجها أكثر من المناداة بتطبيق الشريعة، بدليل شعارها الشهير "الإسلام هو الحل"، والذي يعني أن تطبيق الشريعة هو الحل المثالي لما تعانيه الأمة من مشكلات. ولنا أن نلاحظ أن مشاركة فروع الجماعة في حكومات بعض الدول العربية ظلّت تقترن باشتراطها تطبيق شيءٍ من الشريعة: كمنع الخمر أو تقييد بعض المحرّمات، ما يمكن الاستنتاج، من خلاله، أنه لم يكن ثمّة قضية عند الإخوان المسلمين إلا تطبيق الشريعة، لتكون طريقاً لإصلاح المجتمعات.
الحركات الدينية المتطرّفة، التي تورّطت في أحداث وُسمت بالإرهاب في مناطق مختلفة، يبدو أنها أرادت إقامة ما تتصوّر أنه "دولة إسلامية ناهضة"، تعيد إنتاج عصر الصحابة المتخيّل، كما فعل تنظيم الدولة الإسلامية في سورية والعراق، بدليل أنها تعاطت مع فكرة تطبيق الإسلام باعتبارها نموذجاً متكاملاً يشمل تفاصيل الحياة والدولة، أو بالتعبير الدارج فإنها خلطت الدين بالسياسة، حتى رفضت كل سلوكٍ يخالف "النموذج" الذي حدّدته للسلوك الإسلامي، ورفضت كل فكرةٍ تخالف أفكارها واعتبرت أصحابها مرتدّين خارجين من الملّة، سعياً إلى الحفاظ على ما تتخيّل أنه نقاء الدولة الإسلامية، التي تتصوّرها شبيهة لما كان في عهد الرسول وصحابته. ومع النتيجة الموضوعية للتطبيق "الداعشي" الذي أثبت أن هذا التصوّر لا يقود إلى النهضة، بل إلى مزيدٍ من التخلف الحضاري، فإن تلك الحركات لم تكن معنيةً بتطبيق الشريعة إلا إذا حدث ذلك بيديها هي، وهذا سبب أنها لم تكن مستعدّة لتقديم تنازلات هنا وهناك مقابل تطبيق شيء من الشريعة الإسلامية، كما فعلت جماعة الإخوان المسلمين.
رفضت الحركات الدينية المتطرّفة كل فكرةٍ تخالف أفكارها واعتبرت أصحابها مرتدّين خارجين من الملّة، سعياً إلى الحفاظ على ما تتخيّل أنه نقاء الدولة الإسلامية
الاختلاف بين هذين النموذجين: أحدهما لا يريد أكثر من تطبيق الشريعة والآخر يريد إقامة دولة ناهضة، ولكن بأدواتٍ تنتج دولة متخلفة، يفسّر باختصار السبب الذي جعل الحركات الإسلامية التي عرفها التاريخ العربي المعاصر، كلها، غير قادرةٍ على إنجاز النهضة، ذلك أنها لم تكن معنيةً بإنتاج أمة متحضرّة عصرية تؤمن بدينها، ولكنها تحترم حقّ الناس في الاعتقاد والاختلاف والتنافس في الأفكار. الحركات الإسلامية هذه إما أنها لم تخطّط للنهضة، أو أنها خطّطت لتصوّر مشوّه من النهضة، يقيم دولة أولويتها سن قوانين تحدّد طول لحية الرجال وشكل ثوب المرأة، أي دولة خارج التاريخ والعصر، شديدة التخلف ولا تمت للنهضة الحقيقية بصلة.
والدرس المستفاد من هذا كله أن نجاح الحركات التي تستند، في رسالتها وعملها، إلى فهم إسلامي متماسك، يستند إلى مدى قدرتها على تجاوز مسألة توظيف أيٍّ من: تطبيق الشريعة وإقامة النهضة، من أجل تحقيق الآخر، وهو درسٌ بات علينا اليوم استخلاصه من جملة دروسٍ علينا تعلمها مما مر بنا خلال العقود الفائتة، ومنها العقد الأخير الذي عرف ثورات الربيع العربي، والذي أفادت منه تلك الحركات الإسلامية أول الأمر ثم تضرّرت.
علينا أن نعيد النظر بكل شيء، وأن ننظر إلى ثورات الربيع العربي وسلوك الشعوب والحركات السياسية خلالها مرحلة من تاريخ عرف انثناءات كثيرة، وليس باعتبارها نقطة تحوّل أدخلتنا في تاريخ جديد، لأننا، بعد، لم نفعل.