النصر أو مصر: التنابز بالثورات
لم تستطع واحدةٌ من ثورات الربيع العربي أن تغيّر في رأس السلطة، وتأتي برئيسٍ من خارج النظام القديم، إلا ثورة يناير المصرية.
كان الرئيس محمد مرسي تعبيرًا عن التغيير الشامل، والانتقال الكامل من الحكم العسكري القديم إلى عصر جديد يتولى فيه الرئاسة حاكم مدني منتخب انتخابًا حقيقيًا للمرة الأولى في تاريخ مصر.
نعم، نجحت الثورة المصرية في قطع الشوط الأهم، على طريق صناعة التغيير الجذري. نجحت مرحليًا، وكان بالإمكان أن تكون الثورة المؤسسة لتفكيك بنية الاستبداد في الوطن العربي كله، حتى احتشد ضدها جميع الأوغاد المفزوعين من هاجس امتلاك الشعوب قرارها، من اللاعبين الدوليين والإقليميين والمحليين أيضًا.
كان الإنجاز الأصعب، والتاريخي، للثورة المصرية هو النجاح في التعامل مع آلية تغيير النظام السياسي عبر آلية الانتخابات الشفافة في صيف العام 2012، حين تنافس في السباق 13 مرشحًا، بينهم تسعة حقيقيون، سبعة منهم على قطيعة تامة مع القديم، بوجهه العسكري والعميق، وانتهت الجولة الأولى بمعركةٍ فاصلة بين مرشح التغيير من جهة، ومرشح النظام العسكري والدولة العميقة، لتأتي الجولة الثانية مواجهة بين الأقرب للثورة، الدكتور محمد مرسي، وأحد الخصوم الأشداء لها، الجنرال أحمد شفيق.
وصولًا إلى تلك اللحظة، اجتازت ثورة يناير محطات شديدة الوعورة، على مدار عام ونصف العام، ودافعت عن وجودها ببسالةٍ حتى أجبرت المتربصين بها على الرضوخ لتسليم السلطة، عبر الانتخابات.
في الجولة الأولى، بلغ مجموع أصوات المرشحين المحسوبين على الثورة نحو عشرين مليون صوت، أكثر من ربعهم للمرشح القادم من جماعة الإخوان المسلمين، الدكتور محمد مرسي، فيما كانت الحصيلة الإجمالية لمرشحي الثورة المضادة، المدعومة من النظام العسكري القديم، أقل من سبعة ملايين صوت.
وقصة جولة الإعادة الفاصلة، بين المعارض والجنرال، باتت محفوظةً للجميع، إذ كانت تجسدًا للمعركة التاريخية بين المستقبل والماضي، حين حشد الأخير كل أدواته ووسائله، من إمكانات موروثة، وخيانات انتهازية مستحدثة، من محسوبين على الثورة، سيكشف عنها النقاب فيما بعد، فيما بقي مرشح المستقبل مسلحًا، فقط، بتلك الوشيجة التي تربطه بالثورة، لتنتهي الملحمة بانتصارٍ أذهل العالم، وزلزل عروش الاستبداد في كل مكان على أرض الإقليم، حين احتشدت قوى الثورة لمواجهة محاولات التزوير واللعب في النتائج.
حدثني عن واحدة من ثورات الربيع العربي نجحت في الانتصار بآليات العصر على الاستبداد القديم، وفرضت رئيسًا على قطيعة كاملة مع استبداد الدولة العسكرية الأمنية العريقة في دول الربيع العربي؟
مع خالص الاحترام والتقدير لنضالات جمهور الربيع في تونس، فإن من وصل إلى الحكم، عبر الانتخاب، كان وجهًا من الماضي السابق على ثورة الياسمين، والأمر ذاته مع التجربة اليمنية، مع مراعاة فروق الآليات الديمقراطية، فالذي تولى كان نائب المخلوع علي عبد الله صالح، بالتوافق الإقليمي والدولي، لا بالصناديق.
كان يوم الثلاثين من يونيو/ حزيران 2012 هو عيد انتصار ثورة يناير، ومن أجل هذا اختاروا التاريخ ذاته لذبحها، وتفريق دمها بين القبائل، بعد عام فقط من وصولها إلى الحكم، ليأتي الانتقام من تحالف الكارهين للثورة، بوجه عام، والكارهين لها لأنها لم تصل بهم إلى السلطة، فكانت جريمة العصر في الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 التي أراقت دماء الربيع العربي في كل مكان في الوطن العربي، فيما اعتبرها الأعداء عيدًا.
نعم، كانت تبعات يونيو 2013 أشد كارثيةً على المواطن العربي من تبعات هزيمة يونيو 1967.
المعنى أن ثورة يناير لم تفشل، بل قتلوها ونحروها ووزّعوا من لحمها الحي على عواصم الربيع، لتكون مثلة لكل من يفكر في اجتراح حلم التغيير.
صحيحٌ أن الفرحة لم تتم، والحلم لم يكتمل، والأمل قد اختطفته الأيادي السوداء التي لا تزال ممدودةً لقتل أي جنين يتكون في رحم أشواق الربيع، إلا أن الصحيح كذلك أن ثورة يناير لامست ذروة الحلم، وإن لأشهٍر معدودات، واجترحت نموذج النهاية المثلى لمشروع الربيع، حتى استدار الأعداء فعقروها بأنياب ومخالب انتهازية سافلة، قبل أن تأخد مصر والوطن العربي كله على طريق التغيير الحقيقي.
والحال كذلك، نتمنّى أن تنجح الموجة الجديدة من الربيع العربي في إنجاز ما سعت إليه ثورة يناير، وقتلته مؤامرة يونيو/ حزيران 2013 التي تجسّد التناقض الكامل والعداء الأكمل لإرهاصات مشروع يناير/ كانون ثاني 2011 التي لا تزال تعافر لاستعادة الحلم من خاطفيه.
ستبقى يناير مفخرة تاريخية، فيما تظل يونيو المعرّة، فلا تهينوا الأولى بدافع الخوف من مآلات الثانية، وتذكّروا أن التحرير كان ميدانًا لكل الأعلام والأحلام العربية بصناعة التغيير الحقيقي.