النائب الجهبذ وذريعة التأديب الواهية

26 سبتمبر 2022

(حسين جمعان)

+ الخط -

تأسّست أول جمعية للرفق بالحيوان في العالم ومقرّها بريطانيا في عام 1824، وصدر في العام نفسه قانون مارتين الذي يجرّم الاعتداء على الماشية والدوابّ، ومختلف أنواع الحيوانات بالضرب والأذى، وما زالت جمعيات وهيئات الدفاع عن حقوق الحيوان في العالم المتحضّر تعمل بدأب ومثابرة على توعية مجتمعاتها بالجانبين، الأخلاقي والإنساني، للرفق بالحيوان، ما كرّس لثقافة الرأفة والحب والعناية بكائناتٍ ضعيفة، لا حول لها، وعزّز لدى محبّيها مهارة العطاء. 
ومع مرور السنين، ومن باب تحصيل حاصل، لم تعد هناك حاجة للمطالبة بعدم ضرب الحيوانات، لأن تلك السلوكيات البدائية القبيحة اختفت، ولم يعد هناك من يُقدم على أفعال وحشية كهذه، ما لم يكن مضطربا نفسيا، فأخذت تلك الجمعيات الإنسانية التطوّعية تكثّف جهودها لإجبار حكوماتها على سن القوانين والشرائع التي تكفل حماية الحيوانات المعرّضة للانقراض وتجريم  استخدامها في مجال البحوث العلمية والتعليم واختبار سلامة المنتجات، والحثّ على إيجاد بدائل جديدة، من شأنها إنقاذ تلك الأرواح من تعسّف الإنسان. 
وفي وقت تسترخي أبقار هولندا في مراعيها الخضراء النظيفة الشاسعة، مستمتعة بالشمس والماء والكلأ والهواء العليل، تستمع إلى أهم المقطوعات الموسيقية الكلاسيكية، كي تدرّ أفضل أنواع الحليب، يطلع علينا نائب أردني (حاصل على ماجستير في الإعلام!) من تحت قبّة مجلس الأمة، ليطالب بإعادة تشريع الضرب غير المبرّح (يا لرقّة قلبه!)، وذلك  لضبط المدارس بعد التراجع السلوكي على حد تعبيره، وليعدّد لنا مزايا ضرب الطلاب في المدارس (الحكومية بطبيعة الحال)، للحيلولة دون انفلاتهم وتمرّدهم وتوجّههم إلى تجارة المخدّرات من فرط التسيب والدلال! معلّلا ذلك بأن "الضرب قد يساعد المعلم في ضبط الغرفة الصفّية التي فيها خمسون طالبا"، من دون أن يخطر بباله الاعتراض أو الاحتجاج على تكدّس هذا العدد الهائل من الطلبة في غرفة ضيقة واحدة تفتقر إلى أدنى متطلبات الجو الدراسي الملائم، أو اعتبار هذه الحقيقة وصمةً وتقصيرا فادحا من الجهاز التعليمي، وانتقاصا من حقّ الطالب في ظروف تعليمية لائقة. وأشار النائب بكثير من الزهو إلى تجربته الشخصية وأبناء جيله، حين كان الضرب عُرفا متّبعا في المدارس، بل وتوجه بالشكر إلى كل معلم ضربه، قائلا له "تسلم إيدك". ومنح من مقعده في المجلس معلمي أولاده (على فرض ارتيادهم المدارس الحكومية أصلا!) تفويضا مفتوحا لتأديبهم بالضرب، كلما اقتضى الأمر ذلك! 
عبّر سعادته عن تلك الأفكار التقدّمية النيرة المدروسة بعناية فائقة، تربويا ونفسيا وسلوكيا وأكاديميا (!)، من دون أن يرفّ له جفن، متجاهلا ومستخفّا بالتبعات النفسية الخطيرة التي تلحق بالطالب المعنّف المضروب، وحصل مقترحه التنويري الفذّ على تأييد عدد من النواب،  في سياق مناقشة مشروع قانون حقوق الطفل الذي أثار جدلا واسعا في المملكة، لما يعتريه من هناتٍ وسقطاتٍ في بعض المواد التي تنال من حقّ الطفل في حياةٍ سويّة مستقرّة، ولا تحميه من العنف والخطر، وتصادر حقّ الأم في المشاركة بالقرارات المتعلقة بتنشئة أطفالها، ومتابعة تعليمهم في مراحل دراستهم. من حسن الطالع أن تصريحات النائب قوبلت بالاستهجان والرفض على نطاق واسع، مع التأكيد والإشادة  بقرار الحكومة الأردنية الصادر عام  2007 الذي ينصّ على منع العقاب البدني بكل أشكاله، وأطلقت حينها حملات توعية عن ضرورة التأديب الإيجابي. ويتفق كثيرون على أن من الصادم أن تصدر تصريحات رجعية كهذه عن نائب من المفترض أنه يمثل إرادة شعبية أوصلته إلى مجلس النواب، كي يدافع عن حق المواطن في العدالة، وفي حفظ كرامته، وتجنيبه الامتهان والمذلّة، عوضا عن إتحافنا بتنظيراتٍ جاهلة عقيمة، عن سبل جعل حياة أولادنا المدرسية جحيما لا يُطاق بذريعة التأديب الواهية.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.