الموقف الذي أسعد ماريا زاخاروفا كثيراً
ليست السيدة ماريا زاخاروفا سوى ناطقة باسم الخارجية الروسية، فهي ليست وزيرة الدفاع، لكنها تتصرّف وتتحدّث وكأنها على رأس الجيوش الروسية التي تعيش أسوأ أوضاعها في أوكرانيا، فلا نصر سريعاً كما توقع بوتين، ولا تقدّم كبيراً يعوّض النصر العزيز والغائب. لذلك يغلب التشنّج، بل العدائية، على تصريحات زاخاروفا، فقد سبق أن ردّت بتهكّم على وزيرة الخارجية البريطانية السابقة، ليز تراس، وخاطبتها قائلة: "لم تكبُري بعد يا ليز لتستطيعي وقف لافروف عند حدّه". وعندما تقدّمت تراس باستقالتها لاحقاً بعدما أصبحت رئيسة للوزراء، كتبت زاخاروفا أن بريطانيا لم يسبق أن شهدت مثل هذا العار الذي تسبّبت به رئيسة وزرائها، و"سنتذكّر جهلاً كارثياً وجنازة الملكة بعد لقائها ليز تراس"، فالأخيرة ليست جاهلةً وحسب، بل ومصدر شؤم على بلادها. وسبق لزاخاروفا أن اتهمت وزيرة الخارجية الألمانية، أنالينا بيربوك، بأنها تعاني من هيستيريا معاداة الروس، وأن بعض تصريحاتها تدلّ على غباء أو الرغبة في التضليل. وأكثر من ذلك، توعّدتها ذات تصريح قائلة إن "عيوننا على برلين"، في إشارة إلى احتلال العاصمة الألمانية وتقسيمها في الحرب العالمية الثانية.
وإذا كان هذا شأن زاخاروفا في مقارعة الأعداء على ما تقول العرب، فإن أي تصريح لها يمدح أو يُطري يغدو لافتاً ويستحقّ بعض التوقف. وللمفارقة، ذهب المديح إلى كوريا الشمالية التي عبّرت زاخاروفا قبل أسابيع قليلة عن امتنانها لموقف تلك الدولة من الحرب في أوكرانيا، ورأت أنه يُظهر صوتاً سيادياً جريئاً وحاسماً على الساحة الدولية. وقد جاء مديح زاخاروفا النادر ردّاً على حديثٍ لكيم يو جونغ، شقيقة الرئيس كيم جونغ أون، التي حمّلت فيه الولايات المتحدة مسؤولية الحرب، وتعهّدت بأن تظل بلادها (دائماً) إلى جانب الشعب والجيش الروسي الذي يحمي كرامة الدولة الروسية وسيادتها وأمنها وشرفها.
لا تُعرف بالضبط أهمية تصريح شقيقة الزعيم الكوري الشمالي بالنسبة لروسيا، فبيونغ يانغ لا تزوّد موسكو بالمسيّرات مثلاً، وهي ليست دولةً مؤثّرة في المنظمات الدولية تحتاج روسيا صوتها في مواجهة المعسكر المناهض للحرب، ولا دولةً ثريةً تشكل سوقاً كبيراً تحتاجه روسيا أو يفكّ العزلة عنها لو أطبقت عليها، بل مجرّد دولة صغيرة في الجوار الآسيوي بمشكلات كبيرة ولا تنتهي. وسبق لموسكو نفسها أن تذمّرت مراراً منها في الاجتماعات السداسية التي كانت تضمّ الدول المعنية بالمسألة الكورية، لكنه كلامٌ في كلام ربما اضطرّت إليه زاخاروفا للغمز من مواقف دول أخرى تؤيد بلادها في السر ولا تجرؤ على إعلان ذلك. ويمكن إدراج كلام شقيقة الزعيم الكوري الشمالي في الخانة نفسها، فالسيدة كيم يو جونغ سبق أن حمّلت كوريا الجنوبية مسؤولية انتشار جائحة كورونا في بلادها عندها أصيب شقيقُها بالوباء، ولم يأخذ أحدٌ في الكوريتين وشمال شرق آسيا وجنوبها وغربها وفي بقية العالم كلامَها على محمل الجدّ.
ثمّة شخص واحد يأخذ الأمور فعلاً على محمل الجدّ. إنه شقيقها كيم جونغ أون، فالرجل لا تعنيه تطوّرات الحرب على أوكرانيا، وربما لم يسمع باسم مدينة باخموت التي ما زالت عصيةً على قوات فاغنر والجيش الروسي. كما لا تعنيه منطقة الشرق الأوسط التي تُهيّأ لحربٍ كبرى أو تسوياتٍ شاملة بالغة التعقيد والتداخل، فما يعنيه شيءٌ واحدٌ فقط هو العدو، وهو جارته الجنوبية واليابان والولايات المتحدة. وهذه الدول بالنسبة إليه تجرّأت وأجرت تدريباتٍ مشتركة في جواره، وكثيراً ما تفعل، فماذا كان ردّه؟ المزيد من تجارب إطلاق الصواريخ، وإنتاج رؤوسٍ نوويةٍ حربيةٍ جديدة أصغر حجماً مما يتوفر أصلاً في ترسانته، وإطلاق صاروخ باليستي عابر للقارّات قادر على ضرب أي مكان في الولايات المتحدة، إضافة إلى إنجازه الأكبر، إجراء تجربة على غوّاصة نووية مسيّرة، قطعت، بحسب وكالة الأنباء الرسمية، مسافة ألف كيلومتر على مدى 71 ساعة وست دقائق!
متى ستقع حرب كيم جونغ أون؟ ومع من؟ وهل ستكون الدقائق الستّ حاسمة للفوز بها؟ لا أحد يعرف ماذا ربح دون كيشوت حين حمَل سيفه ودرعه وانطلق إلى القرى المجاورة ليحارب الأعداء في القرن السابع عشر، لكننا نعرف أننا كسبنا روايةً بديعةً وماتعة ما زالت تُقرأ.