الموتُ حين يكون رحيماً
الموت الرحيم يُثار موضوعه بين حين وحين، ويطالب بعضهم بسنّ قانون يُبيحه، فلا يعاقَب من يُقدم عليه، أو بالأحرى من يساعد المُقدِم عليه على بلوغه. في المجتمعات الغربية هو موضوعٌ مطروقٌ ومطروح بشكل دائم، وهي مجتمعاتٌ تخلّت، في غالبيتها، عن عقوبات الإعدام على أشكالها، معتبرةً أن لا حقّ يبيح لإنسانٍ، سواء مثّل الدولة أم القضاء أم نفسه، الحكمَ بالموت على آخر. بعضها أيضا مجتمعاتٌ كاثوليكيةٌ مؤمنة جدا تحرّم الانتحار، كما هي حال إسبانبا التي أجري فيها استطلاع للرأي العام أسفر عن تأييد الغالبية العظمى لهذه الممارسة. في البلدان التي شرّعت الموت الرحيم، الأمور تُؤخذ بجدّية كبيرة، وثمّة من يسمّيه قتلا رحيما، أو مساعدة مهنية على الانتحار، وهو، في كل الحالات، خاضع لمعايير صارمة جدا تشترط أن يكون طالبُه بالغًا، ممتلكا كامل قواه العقلية، ومصابا بمرضٍ عضالٍ غير قابل للشّفاء. بعضُ الدول بدأت تناقش احتمال منح المرضى النفسيين "الثقال" والقاصرين حتى، حقّ طلب المساعدة على الانتحار.
في الأسبوع الماضي، أقدم المخرج السويسري/ الفرنسي المعروف، جان لوك غودار، على طلب المساعدة على الانتحار. لدى سويسرا قانون يسمح بذلك. كان يبلغ الواحدة والتسعين من العمر، وقد بدأت قواه تخور، وراح يفقد قدرته على العيش والتحرّك باستقلالية. كم تُراه كان سيعيش بعد؟ لا ندري. لكنّ منطق الحياة يقول إن أيامه كانت قد أصبحت معدودة. لا مجال هنا للنقاش. الأيام المعدودة قد تطول أسابيع أو سنوات، والشعور بالعذاب والقدرة على التحمّل مسألة ذاتية. هل هو اعتراضٌ على إرادة الربّ أن يقرّر الرجل التسعينيّ أنه قد حان أوان الرحيل؟ ربما. البابا فرنسيس، ومن خلفه الكنيسة برمّتها، يرفضان الأمر ويعتبرانه انحرافا واعتراضا على مشيئة الربّ. "علينا أن نرافق المريض الذي يحتضر، لا أن ندفعه إلى الموت، وألا ندعم أيّ نوع من أنواع الانتحار"، صرّح البابا. هذا، ويُعَدّ هذا الموت أشبه بممارسة جريمة قتل من شعوب وثقافات أخرى بأكملها، وهو مرفوضٌ أخلاقياً ودينياً لدى كثيرين.
في بداية الألفية الثانية، ضجّت فرنسا بقضية الشاب فينسان هامبير: بعد تعرّضه لحادث سير مروّع أفقد الأطفائي الشاب (19 عاما) البصر والنطق وشلّه تماما، لكن فينسان بقي واعيا عقليا بحيث إنه تمكّن من توجيه رسالةٍ إلى رئيس الجمهورية آنذاك، جاك شيراك، يطالبه فيها بالموت الرحيم. لكن الأخير رفض طلبه، قائلا إنه غير مؤهّل لقبوله. عندها، توجّه فنسان إلى والدته ماري طالبا منها المساعدة، فقبلت بعد حيرةٍ وطول تفكير، ووضعت كمية كبيرة من المنوّم في محلول المصل، ما أدّى إلى إصابته بسكتةٍ دماغيةٍ استمرّت يومين، قرّر الطبيب على أثرها أن يفصل عنه آلات إبقائه على قيد الحياة. لقد أوقفت العدالة ماري والطبيب، ثم أُطلق سراحُهما، وأقيمت دعوى جزائية ضدّ الوالدة واتُهمت بالقتل، إلى أن بـُرّئت بشكل نهائيّ عام 2006. بعد مرور 20 عامًا، عادت هذه القضية إلى الظهور مجدّدا بعد قرار الرئيس الحالي ماكرون إجراء استطلاع رأي، في شهر أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، حول تشريع قانون يجيز المساعدة على وضع حدّ للحياة.
ليس سهلا أن تمنح أمٌّ ابنَها الموت، أليس كذلك؟ لكنه كان أسهل عليها ولا بدّ أن تساعده على الانتحار من أن تراه سجين جسده المعطّل أبدًا، معذّبا يريد الخلاص بروحه من الحياة ولا يقدر. لا بدّ أن كل شخصٍ سيطرح على نفسه هذا السؤال إن تعرّض، لا سمح الله، لمأساةٍ كهذه. ماذا أفعل عندما أرى من أحبّ يتعذّب بلا طائل وبلا أمل بالنجاة؟
بلى، الموتُ قد يكون رحيمًا في بعض الحالات، ولربما وجبت تسميته الموت بكرامة، حين تصبح الحياة لا تُطاق، وهي للأسف قد تصبح بحقّ بعضنا، منتقصة، مهينة، وتفوق الاحتمال.