المنظمات الأهلية وغير الحكومية والمأساة السورية

20 فبراير 2023
+ الخط -

انقسم السوريون بشأن الموقف من المنظمات الأهلية وغير الحكومية الناشطة في الشأن السوري، بين اعتبارها مؤسّسات فاسدة من ناحية، ورافضي تعميم تهم الفساد على مجملها. أخذ الخلاف أبعاداً كثيرةً وعديدةً، بحكم الظرف الراهن، الذي فرضه الزلزال المدمّر على مدن سورية عديدة، ملحقاً دماراً كبيراً وخسائر بشرية ضخمة، يصعب (يستحيل) التعامل معه وفق قدرات السوريين المحدودة اليوم، خصوصاً بعد الكوارث التي فرضتها سياسة النظام الأمنية والعسكرية تجاه ثورة الشعب السوري، وبحكم التدخلات/ الاحتلالات الخارجية المدمّرة، ونتيجة غياب المؤسسات الإدارية والاجتماعية والسياسية الموثوقة والفاعلة على كامل الجغرافية السورية، من نظام الأسد إلى قوى الأمر الواقع المتعددة.
من ناحية تعريفية، يصعب اعتبار هذه المنظّمات أهلية من ناحية بناها الإدارية ومرجعيتها، كما يصعب اعتبارها منظمات غير حكومية بمعنى فواعل فوق الدولة أو مستقلة عنها، إذ تتسم هذه المنظمات والمؤسّسات بصفة مشوهة ومركّبة يصعب معها تصنيفها. إذ لا تخضع هذه المنظمات لتقييم ومحاسبة وإدارة الوسط الاجتماعي السوري الكامل، أو حتى قسم منه، كما في حالة النقابات المهنية والعمّالية مثلاً، كما لا تخضع لقانون وطني واضح ومحدّد، بل تدار وفق أهواء الجهة الداعمة ومصالحها أولاً، والجهة المؤسّسة ثانياً؛ حزبية كانت أو دولة خارجية أو النظام أو أفراداً.

تعاني سورية من انهيار اقتصادي شبه كامل، نتيجة سياسات النظام الأمنية

في البداية، يجب التنويه بدور هذه المنظمات المهم والمحوري سورياً، داخل مناطق سيطرة النظام وخارجها، بعد انكفاء الدولة السورية عن ممارسة دورها الاجتماعي والخدمي، لصالح تنامي دورها الأمني والعسكري أولاً، ونتيجة ترهّل قوى المعارضة السياسية وتبعيتها الخارجية، واقتصار دورها على الجانب الإعلامي فقط، مع بعض الأدوار السياسية المرسومة لها من داعميها ثانياً، الأمر الذي حمّل المنظمات الأهلية وغير الحكومية مسؤوليات الدولة الاجتماعية والخدمية كاملةً، من الطبابة إلى التعليم، مروراً بالإغاثة وتأمين السكن.
كذلك تعاني سورية من انهيار اقتصادي شبه كامل، نتيجة سياسات النظام الأمنية تجاه ثورة الشعب السوري أولاً، وبحكم التدخلات والاحتلالات المتعدّدة في سورية ثانياً، وحصيلة هروب رأس المال البشري والمادي السوري إلى خارج سورية ثالثاً، الأمر الذي أدّى إلى ندرة فرص العمل، وارتفاع معدلات البطالة والفقر. في ظل ذلك، باتت المنظمات الأهلية وغير الحكومية في سورية مؤسّسات اقتصادية نسبياً، بمعنى أصبحت مصدر العمل شبه الوحيد للغالبية العظمى من السوريين. الأمر الذي ساهم في تضخّم كادرها الوظيفي، وتراجع حجم كادرها التطوعي؛ باستثناء فترات الكوارث، وازداد تنافس السوريين على نيل وظيفة في إحداها، ما عزّز ظاهرة المحسوبيات، والفساد الإداري، والانتقائية.
ساهم الوضع السوري بتعقيداته الكثيرة في صناعة ظرف مشوّه، أدى بدوره إلى إيجاد منظومات مشوّهة، منها على سبيل الذكر لا الحصر ما يعرف اليوم بالمنظمات الأهلية أو غير الحكومية، ذلك كله يُضاف إلى مشكلات العمل الأهلي السابقة في سورية، ومشكلات المنظمات غير الحكومية المتعدّدة، المعروفة سلفاً، من بيروقراطيتها إلى فسادها العابر للقارّات، فضلاً عن أجنداتها غير المواتية لجميع الظروف والمجتمعات، بالحد الأدنى، التي لا تأخُذ بالاعتبار العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المحلية، وسياقات التطور والحداثة ومتطلباتها.

يتحمّل النظام السوري مسؤولية البيئة المشوّهة السورية وظروفها

إذاً، لم تعد المنظمات الأهلية وغير الحكومية السورية الفاعلة في سورية بنى داعمة للدولة ومساندة لها، بل أضحت هي الدولة من ناحية دورها الاجتماعي والخدمي، ونسبياً الاقتصادي، الأمر الذي حملها أمراض الدولة ذاتها، من فسادها المالي والإداري وسوء إدارتها، كما حملها مسؤولياتها، لكن مع فارق بسيط؛ لكنه جوهري، يكمن في اعتبارها من نماذج العمل الأهلي التطوعي، وإنْ تقلصت المشاركة التطوعية، الأمر الذي يجعل مهامها غير إلزامية، على عكس الدولة التي تتحمّل مسؤولية مجتمعها المحلي كاملاً، وإن أنكرت أو تنكرت لها.
بناءً عليه، يتحمّل النظام السوري مسؤولية البيئة المشوّهة السورية وظروفها، على اعتباره ممثل الدولة السورية الرسمي حتى الآن، فضلاً عن دوره المحوري في فرض التشوه بسياساته الأمنية والإجرامية، كما تتحملها أجسام المعارضة الرسمية كذلك لقصور دورها وتبعيتها، تليهما قوى الاحتلالات والقوى الفاعلة في سورية، والمجتمع الدولي ومنظماته ومؤسساته المختلفة، وصولاً إلى مسؤولية المنظمات الأهلية وغير الحكومية الفاعلة بسورية، أو بالأصح مسؤولية غالبيتها.
في الحالة السورية الراهنة، لا يمكن الاستغناء عن دور هذه المنظمات، رغم كل سلبياتها ومظاهر الفساد الإداري والمالي المنتشرة فيها، نظراً إلى غياب دور الدولة الاجتماعي والاقتصادي، الأمر الذي يحيلنا على جذر الأزمة السورية السياسي، الذي يتطلب إعادة الاعتبار للعمل السياسي في الأوساط الشعبية، انطلاقاً من أولوية التحرير الكامل والشامل والتغيير السياسي والاقتصادي الجذري.

حرية التعبير والاهتمام بالشأن العام من أهم مكاسب الثورة السورية

سورياً، فشل الرهان على قدرة العمل الأهلي التغييرية، في غياب العمل السياسي المنظّم الحزبي، وغياب البرامج السياسية الشاملة والمتكاملة اقتصادياً واجتماعياً، فقدرة العمل الأهلي على صنع التغيير المحدود أو الشامل مشروطٌ بتوافر ظرف سياسي وقانوني، دستوري، يمكّنه من لعب دورٍ بارزٍ في تحديد مصير الأوطان، وهو ظرفٌ غائبٌ عن سورية تاريخياً، أي من قبل الثورة.
تعتبر حرية التعبير والاهتمام بالشأن العام من أهم مكاسب الثورة السورية، التي تتجلى في إبداء السوريين آراءهم في كل صغيرة وكبيرة تخصّ بلدهم وشعبها، أحياناً لا تخصّ سورية. هذه الحالة النقدية صحية وضرورية، رغم عدم توافر مقوماتها الرئيسية، خصوصاً في ما يتعلق بسهولة الوصول إلى المعلومات، وشفافية البنى الإدارية والتمثيلية، أهلية كانت أو سياسية أو حتى إعلامية وقضائية، فجميع قوى الأمر الواقع في سورية، في مقدمتها النظام، وجميع المنظمات والهيئات والمؤسسات الفاعلة داخل الأراضي السورية تحجب القسم الأكبر والأهم من المعلومات الضرورية للمحاسبة والنقد والمراقبة، الأمر الذي يحمّلها مسؤولية شحّ المعلومات، وانتشار النقد المبنيّ على التحليل بدلاً من النقد العلمي المستند إلى الحقائق والمؤشّرات الموثوقة والدقيقة.
في الختام، يجب الإقرار بدور العمل التطوعي السوري في الحد من آثار الكوارث الطبيعية والبشرية وتبعاتها التي حلت بسورية منذ اندلاع الثورة الشعبية السورية، كما لا بد من الاستمرار في نقد المظاهر السلبية المنتشرة والمعمّمة فيه، إذ قد يساهم هذا النقد في الحد من تأثير المظاهر السلبية؛ ولو مؤقتاً، كما قد يساهم في استعادة الدور السياسي للشعب السوري، الذي نجح النظام والاحتلالات وقوى الأمر الواقع في حجبه عنه.

75812723-2689-4553-B56D-72CE271905DB
حيّان جابر
كاتب فلسطيني، مشارك في إعداد ملحق فلسطين.