المقاومة بين الابتزاز والابتذال

29 ديسمبر 2023
+ الخط -

هناك صعوبة في نزع تصريح المتحدّث باسم الحرس الثوري الإيراني عن دوافع المقاومة لبدء عملية طوفان الأقصى وبين استئناف محاولة شيطنة المقاومة من جديد لدى الدوائر التي تتربّص بها منذ بداية العدوان الصهيوني على غزّة.
صحيحٌ أن ما يشبه اعتذارًا رسميًا إيرانيًا جاء سريعًا بعد زوبعة التصريحات التي أقل ما توصف به أنها عدم لياقة سياسية، والتي جرى الربط فيها بين عملية طوفان الأقصى والانتقام لمقتل القائد السابق للحرس الإيراني، قاسم سليماني، غير أن هذه التصريحات أجّجت حريقًا طائفيًا، كنا نظنّ أن التفافًا من الجميع حول دعم مقاومة الشعب الفلسطيني قد أخمده، إذ تلقّف الصهاينة والمتصهينون الواقعة، وعادت انبعاثات تلك الحملة الكريهة ضد المقاومة التي يتبنّاها محور التطبيع العربي.
وإذا كانت تصريحات المتحدّث باسم الحرس الثوري الإيراني عن "طوفان الأقصى" هي الأغبى والأكثر إساءة للمقاومة، فإن تناول بعض الذين يزعمون إنهم حُماة العروبة والإسلام السني لعملية اغتيال جنرال إيراني آخر في دمشق باستباحة عرض امرأة سورية هو الأكثر وضاعة والأكثر إساءة للإسلام وللسنّة وللعروبة، ولمشروع المقاومة نفسه، ليبقى الرابح الوحيد في الحالتين هو الصهيوني وتوابعه من المتصهينين الذين يخوضون معركة إعلامية وسياسية ضد صمود المقاومة في غزّة، والذي يدخل أسبوعه الثاني عشر. 
مؤسفٌ وباعثٌ على الغضب أن يتزامن تجدّد الاشتباكات الطائفية مع تدشين حملة إعلامية ودبلوماسية مكثّفة، تهمّش دور المقاومة السياسي في مرحلة ما بعد العدوان على غزّة، تلخّصها، وبحسب مصدر مصري مطلع أبلغ "العربي الجديد"، أن "الإدارة الأميركية تدعم رؤيةً تتضمّن ألا تكون حركة حماس المسيطر الرئيسي على إدارة غزّة عقب انتهاء العدوان الإسرائيلي على القطاع، مضيفاً أن المسؤولين في مصر، خلال اتصالات جرت هذا الأسبوع، نقلوا أن أي حديث عن غياب كامل لحركتي حماس والجهاد الإسلامي من المشهد عقب الحرب لن يكون واقعياً، وأن من الأفضل البحث في صيغ توافقية تراعي التركيبة السياسية في القطاع. 
ووفقًا للمصدر ذاته، فإن "تصوّر غزّة ما بعد الحرب يعدّ عائقاً رئيسياً حتى الآن في التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، حيث تبدو الولايات المتحدة غير متحمّسة لخيار إنهاء الحرب قبل التوافق على شكل إدارة غزّة بما يضمن أمن إسرائيل".
ولا ينفصل ذلك بالطبع عن ترتيبات أميركية وصهيونية أخرى تجري محاولاتٌ لفرضها على دول جوار فلسطين، منها ما طرحه وزير الأمن الإسرائيلي، يوآف غالانت، على نظيره الأميركي، لويد أوستن، الذي زار إسرائيل في الأيام الأخيرة، بشأن إقامة جدارٍ تحت أرضي في منطقة رفح في الأراضي المصرية، لفصلها عن قطاع غزّة، بتمويل أميركي، على غرار الجدار الذي أقامته إسرائيل بعد العدوان على غزّة عام 2014.
الشاهد أن محاولات تقليم أظافر المقاومة، وفي المقدّمة منها "حماس"، لم تنقطع طوال أسابيع المعركة، لكنها تأخذ طوْرًا مكثفًا في الأيام الفائتة، بالنظر إلى أن فصائل المقاومة أظهرت صمودًا استثنائيًا، وأنجزت ما يشبه المعجزات والبطولات العسكرية الخارقة التي هتكت أسطورة التفوّق الصهيوني، ولقّنت الآلة العسكرية الإسرائيلية الأميركية دروسًا قاسية، مدعومة بحاضنةٍ شعبيةٍ عربية، عابرة للتخندق الطائفي، ومسندةً بجهود عسكرية ميدانية مشهودة من حزب الله في جنوب لبنان والحوثيين في اليمن.
والحال كذلك، تبدو مزعجة ومثيرة للأسى، لا أقول الريبة، هذه الاستجابة العمياء لموسيقى الاشتباك الطائفي، وسكب وقود التعصّب المذهبي في الفضاء الشعبي العام الداعم مبدأ مقاومة الاحتلال، متحرّرًا من ضيق التصنيفات الأيديولوجية والطائفية، التي تهين دماء الشعب الفلسطيني الذي قدّم أكثر من 21 ألف شهيد حتى الآن في معركة، هي بكل المقاييس معركة الأمة كلها، فضلًا عن ابتذال قضية فلسطين نفسها حين تتحوّل إلى ساحة فارغة لممارسة ألعاب المبارزة والمصارعة الطائفية، وحائطًا ممتدًا لعبارات الكراهية المذهبية، وكأن كل تيار يريد تفصيل القضية على مقاساته وصبغها بألوانه.
مرّة أخرى، ليس على المقاومة الفلسطينية ديون لأحد، بل الكل محمّل بديون ضخمة لها، لم يؤدّها أحد حتى الآن، إذ يكفيها أنها النور الباقي في محيط من الظلام الدامس.. فلا تُقحموها في سراديب الهوس الطائفي، لا تبتزّوها ولا تبتذلوها.

وائل قنديل (العربي الجديد)
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري من أسرة "العربي الجديد" عروبي الهوية يؤمن بأنّ فلسطين قضية القضايا وأنّ الربيع العربي كان ولا يزال وسيبقى أروع ما أنجزته شعوب الأمة