المفردات في الصراع الفلسطيني الصهيوني

12 يناير 2024

(كريستيان سركيس)

+ الخط -

للحرب أسلحةٌ وأشكالٌ كثيرة، وأحد الأسلحة التي يركّز عليها عدوّنا الصهيوني، ويستخدمها، سلاح المفردات اللغوية التي يقصد من خلالها التأسيس لغويا لحالةٍ معيّنة، بحيث يكرّرها المتلقّي باستمرار، بوعي أو بدونه، ويجري تحويلها إلى حالة نفسية، ما يسهّل تحوّلها بعد ذلك إلى واقع مقبول، فعند الحديث في السياسة يصبح لكل حرفٍ، ولكل كلمة، ولكل فاصلة أو نقطة، دلالة قد تضفي على المضمون معنىً آخر. وجميعنا نعرف ما جرى بخصوص قرار مجلس الأمن 242 في نسختيه الفرنسية والإنكليزية، وكيف لعبت أل التعريف دورا في تغيير المعنى كاملا.

ومن أبرز الأمثلة على استخدام العدو مفردات معيّنة خدمة لمشروعه الاستيطاني الاستعماري، ومحاولته إنكار وجود فلسطين وشعبها، عندما يدخل القارئ إلى أحد مواقع الإنترنت الصهيونية الرسمية، يجد أنها تتحدّث عن فلسطين مستخدمة مفردة "البلاد"، إذا كان الحديث عن الفترة التي سبقت تأسيس الكيان الصهيوني. أما إذا كان عن الفترة التي تلت ذلك، فالمفردة المستخدمة "إسرائيل"، فمعظم القادة الصهاينة، وخصوصا المؤسّسين، ولدوا في بولندا وأوكرانيا و"وصلوا" إلى "البلاد"، ولم "يهاجروا" إلى "فلسطين". أما من ولد منهم في فلسطين المحتلة فيتمّ ذكر أنه ولد في "إسرائيل". والقصد من ذلك واضحٌ كل الوضوح، ويُساهم في طمس ذكر فلسطين ووجودها. وفي بعض الأحيان، يتم استخدام مفردة "عاد" إلى فلسطين بديلا لمفردة "هاجر" إلى فلسطين، وكأن هؤلاء المهاجرين الجدد كانوا يوما في فلسطين، وغادروا لسببٍ ما، بعض الوقت، وليسوا أشخاصا لا تربطهم بفلسطين الوطن أدنى رابطة، وأنهم مهاجرون من أوطان مختلفة، يجسّدون مشروعا استعماريا استيطانيا.

ومن أمثلة أخرى بارزة يستخدمها العدو أيضا حديثه عن "الفلسطينيين"، وليس عن الشعب الفلسطيني. وهو يكرّر ذلك باستمرار دونما كلل أو ملل، فالفلسطينيون هم عشائر وحمائل وقبائل، جاء بعضهم من دول عربية مجاورة، وليسوا شعبا له هوية وطنية وتراث وعادات وتقاليد، وإنما شعب "اخترعه" ياسر عرفات. وكل من يقرأ الصحافة الإسرائيلية أو يشاهد التلفزيونات الإسرائيلية يلحظ أن مفردة الشعب الفلسطيني تغيب دائما عن الاستخدام، فنحن بالنسبة لهم "عربيم"، وفي أحسن الأحوال "فلسطينيم" وليس الشعب الفلسطيني. ومن المؤسف أن وسائل إعلام عربية تكرّر وبغباء، والله أعلم، المفردات ذاتها. ولهذا علينا أن نستخدم دائما وباستمرار، وكلما اقتضت الحاجة، تسمية الشعب الفلسطيني بدلا من الفلسطينيين.

علينا دائماً أن نستخدم المفردة التي تُظهر قبح العدو وكذبه وخسّته وإجرامه وانحطاطه ولا أخلاقيّته

يهدف استخدام مفردات معينة في وصف الصراع الفلسطيني الصهيوني الاستيطاني، في مرّات كثيرة، إلى تشويه النضال الفلسطيني بطريقة خبيثة وخسيسة غير أمينة، فمثلا، لا يتم ذكر اسم "حماس" إلا مختصرا، ولا يتم ذكره كاملا، حركة المقاومة الإسلامية. وحتى مفردة "حماس" التي تحمل معنى عربيا جميلا، لا تتم ترجمتها إلى اللغات الأجنبية، بعكس "داعش" التي يترجمها الإعلام الغربي وإعلام العدو، والتي يعرّفها العدو باسمها "الدولة الإسلامية" مترجما، رغم أنها ليست دولة ولا إسلامية، وإنما هي تنظيم إجرامي مشبوه، فهل ترجمة "داعش" إلى اللغات الأجنبية، والإصرار على تداول مفردة "هماس" أو "خماس" كما هي من دون ترجمة أمرٌ جاء بالمصادفة. وينطبق الشيء نفسه على "انتفاضة" الشعب الفلسطيني التي نجح العدو وحلفاؤه في الغرب في فرضها مفردةً، كما هي، بدون ترجمة، حتى لا يظهر مضمونها من خلال ترجمة معناها أن هناك من هو محتلّ ومن هو تحت الاحتلال، وحتى يحتار القارئ في دلالات هذا المصطلح الغريب. وينطبق الحال على حزب الله. حيث يلفظ اسم الحزب كما هو بالعربية من دون ترجمة "هزب الله" أو "خزب اللاخ"، بل ويضيفون إلى اسمه المكوّن من كلمتين مفردة ثالثة، "الشيعي"، إمعانا في تعزيز الفرقة والانقسام في الوطن العربي والإسلامي.

ومن الأمثلة على التلاعب في المفردات عشرات السنين استخدام كلمة "النزاع" العربي الإسرائيلي، في محاولة لإخفاء العنصر الفلسطيني من الصراع، وتحريف صورة الصراع نفسه، وكأنه نزاع بين جارين أو طرفين حول قضية ما، وكذلك استخدام كلمة "خصم" بدلا من "عدو"، رغم الفارق الكبير بين دلالات الكلمتين ومعنييهما، فالخصم هو المنافس في لعبة، أو من لديك مشكلة معه يمكن حلّها من خلال القضاء أو بوساطات اجتماعية، فالخصومة لا تعني الحرب، وغالبا ما تقع الخصومة بين الأحباء. أما "العدو" فهر طرفٌ لا بد من مواجهته بالحرب أوبأي وسائل أخرى مناسبة، من أجل القضاء عليه أو الانتصار عليه على أقل تقدير. وتلعب كلمة "الخصم" الدور نفسه في التشويه الذي تلعبه مفردة "نزاع". وتصر وسائل الإعلام الرسمي العربية على عدم استخدام مفردة "العدو" وحذفها من قاموس المفردات المتداولة.

كذلك يستخدم العدو المفردات لتكريس روايته "التاريخية"، وفي غسل أدمغة اليهود، قبل أن يهاجروا إلى فلسطين المحتلة وبعد هجرتهم، فهم لا يعرفون غير ما يلقّنهم إياه. وقد حصل معي مثال واضح على هذا الاستخدام، ففي حديث بالمصادفة مع مستوطنة يهودية في بلغاريا، وفي إجابتي لها عن سؤال: من أين أنت؟ قلت لها: من فلسطين – نابلس. ... أبدت استغرابها واستفسرت مرّة أخرى عن نابلس، رغم أن نابلس، وحتى حزيران/ يونيو 1967، كانت المدينة الأكبر في الضفة الغربية، كما أنها من كبريات المدن الفلسطينية، حتى قبل تأسيس الكيان الصهيوني، وتحمل هذا الاسم منذ العصر الروماني، ولكن هذه المستوطنة لم تدرك ما هي نابلس، وأين تقع، حتى قلت لها "شخيم"، رغم أنها تسكن في ريشون ليتسيون البعيدة قرابة 40 كم عن نابلس. لقد أدركتُ حينها حجم السيطرة على وعي هؤلاء الناس، وكيف يتم غسل أدمغتهم وتحويلهم من مواطنين في أوطانهم المختلفة إلى مستوطنين في فلسطين المحتلة.

ولا داعي للتذكير بأن كل اليهود الصهاينة وغير الصهاينة في فلسطين المحتلة يستخدمون مفردة "المناطق"، للتدليل على الأراضي الفلسطينية المحتلة بعد عام 1967. أما إذا كان الحديث عن الضفة الغربية المحتلة، فالمفردة المستخدمة "يهودا والسامرة". وهناك لوحات كثيرة على الطرقات، وفي مداخل القرى الفلسطينية في الضفة الغربية، تحمل أسماءً للقرى الفلسطينية، كتبت بطريقة مشوّهة ومحرّفة، بإضافة حرف ياء أو ألف أو ميم، خصيصا لكي يمحو العدو ما كان في ذاكرتنا ويستبدله بأسماء جديدة، كما يتم الحديث عن "السكّان" وليس المواطنين، وهؤلاء السكان هم "عرب"، مجرّد عرب، وليسوا فلسطينيين، تماما كما أطلق العدو على الفلسطينيين الذين بقوا في أرضهم وبيوتهم بعد احتلال عام 1948، فهم "عرب" إسرائيل، وليس المواطنين الفلسطينيين. تماما كما يطلقون على المقاتلين الفلسطينيين مفردة "حبليم" أي "مخرّبين"، وعلى أسراهم لدى المقاومة الفلسطينية "خطوفيم"، أي المختطفين. ويتحدثون عن "الحدود" بين قطاع غزّة والكيان المحتل، وليس عن خطّ الهدنة عام 1948.

 من أمثلة بارزة يستخدمها العدو حديثه عن "الفلسطينيين"، وليس عن الشعب الفلسطيني. ويكرّر ذلك باستمرار

تردّد بعض الفضائيات العربية، بغباء أو بحسن نية، مفردةً كثر استخدامها بحكم كثرة عدد الضحايا الفلسطينيين في الآونة الأخيرة، حيث يتجنّب العدو الصهيوني استخدام مفردة تم "قتله" أو "تصفيته" أو "القضاء عليه" أو ما شابه من المفردات، وإنما يستخدم مفردة تم "تحييده"، فهل يمكن اعتبار اطلاق جنود الاحتلال الإسرائيلي النار على مواطن فلسطيني، ثم استمرار إطلاق النار عليه، أحيانا وهو ملقى أرضا، بعد إصابته، ومنع سيارات الإسعاف من الاقتراب، هل يمكن أن يسمّى ذلك تحييدا؟ أم هي جريمة قتل بشعةٍ مع سبق الإصرار؟ فالتحييد يعني إخراج الشخص من معسكر المواجهة، وتحويله إلى طرف غير معادٍ أو غير قادر على فعل معادٍ، أما قتله ومفارقته للحياة، فلا يمكن اعتباره تحييدا، والضحية في مفرداتنا "شهيد" رغم أنف فضائية "العربية"، ولكنهم يلفظونها دائما في تلفزيوناتهم باستهزاء واضح. نعم، يجب أن نصرّ على مفرداتنا التي توضح حقّنا بالدفاع عن أنفسنا أمام العدو الغاصب المحتل، فما يهلك من جنود العدو قتلى، وما يرتقي من مقاتلينا شهداء، وما "يسقط" من جند العدو هم "جثث"، أما من جانبنا فهي جثامين. والمعتقلون الإداريون الذين يجمعهم جيش الاحتلال الصهيوني في مداهماته الليلية البيوت الآمنة في الضفة الغربية، ويلقي بهم في السجون من دون تهمة ومن دون محاكمة، هم "المخطوفون" الحقيقيون، وليس الصهاينة الذين تم أسرهم بعد معركة.

علينا دائما أن نستخدم المفردة التي تُظهر قبح العدو وكذبه وخسّته وإجرامه وانحطاطه ولا أخلاقيّته، وأن نستخدم المفردات التي تظهر ثقتنا بأنفسنا وبحقّنا في وطننا فلسطين، وبحتمية انتصارنا وبضعف عدوّنا أمام إرادتنا. ومثالا على الاستخدام الخاطئ أحيانا للمفردات أحيانا ما ورد في نعي رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة الشهيد صالح العاروري، وقوله إنها "جريمة متكاملة الأركان"، وهو تعبير فيه مديح مبطّن، غير مقصود طبعا، في مفردة "متكاملة"، فهذه ليست المفردة الأنسب لوصف هذه الجريمة، فالكمال والاكتمال أبعد ما يكون عنها، وكان الأفضل القول جريمة "دنيئة" أو "غادرة" أو "بشعة" أو واضحة المعالم ... إلخ. وقد تحدّثت صحافة العدو في اليوم التالي للجريمة، من باب الزهو والافتخار بالجريمة ومنفذيها، عن الكمال والدقة والحرفية العالية في التنفيذ.

كل هذه التعابير التي يستخدمها العدو مدروسةٌ ومحسوبةٌ بدقّة، ويستخدمها متعمّدا، وليس مصادفة، بغرض التأثير في معنويات المواطن الفلسطيني والعربي ووعيه ونفسيته، واحتلالنا لغويا وثقافيا ... وعلينا الانتباه والحيطة والحذر.

حلمي الخطيب
حلمي الخطيب
كاتب وباحث فلسطيني في صوفيا