المغرب .. الجهل قنبلة موقوتة

17 مارس 2022

(كمال بلاطة)

+ الخط -

ما فتئت التقارير الوطنية والدولية تتواتر بشأن الكلفة التي يتحمّلها المغرب نتيجة الأزمة العميقة التي تتخبط فيها منظومة التربية والتكوين (التأهيل). ومن ذلك المراتب المتأخرة التي يحتلها في مؤشّر التنمية البشرية الذي تُصدره الأمم المتحدة، والتي تعكس أعطابا مزمنةً تقيم في السياسات والبرامج الاجتماعية المتبعة، وتنبئ بسيناريوهات وخيمة في غياب إصلاح شامل لهذه المنظومة.

مناسبة الإتيان على هذا الكلام ما شهدته مباراة فريقي الجيش الملكي والمغرب الفاسي، الأحد الماضي برسم تصفيات كأس العرش، من أحداث دامية بعد اقتحام أنصار فريق الجيش أرضية الملعب، إثر خسارة فريقهم، واشتباكهم مع قوات الأمن وأنصار الفريق الخصم. وقد خلفت هذه الأحداث جرحى بين قوات الأمن والجمهور، ناهيك عن خسائر مادية كبيرة في معدّات الملعب وتجهيزاته وفي الممتلكات العامة والخاصة.

قد يقول قائل إن أحداث ''الأحد الأسود'' لا تشذّ عما تشهده ملاعب كرة القدم في مختلف بلدان العالم، غير أن ما يستوجب الوقوف عنده أن كثيرين ممن أُلقي عليهم القبص على خلفية هذه الأحداث كانوا من القاصرين (90 حسب المديرية العامة للأمن الوطني)، ما يعني أن هناك خللا بنيويا في المؤسسات الاجتماعية التي باتت عاجزةً عن التحكّم في كتلة اجتماعية عريضة أضحت تشكل خطرا على الدولة والمجتمع. يجد هذا الخلل أسبابه، أو بعضها، في استمرار ارتفاع نسبة الهدر المدرسي الذي بات قنبلة اجتماعية موقوتة، حيث يغادر مقاعد الدراسة، كل سنة، أكثر من 300 ألف تلميذ، حسب المرصد الوطني للتنمية البشرية، ليجدوا أنفسهم في أوضاع اجتماعية مزرية، تدفعهم، في الغالب، نحو الانحراف والجريمة والإدمان على المخدرات، لا سيما في الأحياء الشعبية وأحزمة الفقر التي تطوّق المدن والحواضر الكبرى.

لم تعد مؤسسات المجتمع تقوم بأدوارها التقليدية في التربية والتوجيه والتأطير، وفي مقدمتها المدرسة التي يكاد دورها لا يتجاوز محو الأمية، والأسرة التي تشهد تحولاتٍ سوسيولوجية عميقة، هذا من دون الحديث عن تراجع مُهولٍ في أدوار الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني ودُور الشباب، مع ما يعنيه ذلك من تردٍّ اجتماعي وثقافي يصعب التكهن بمآلاته في المنظور البعيد. وبالتوازي مع ذلك، ظلت السلطة تنظر إلى التعليم باعتباره عبئا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ثقيلا. ولم تكن مخطّطات إصلاحه معنيةً بالجذور العميقة للمشكلة بقدر ما كانت حلولا مُجتزأةً وترقيعية، هذا في وقت تخصّص لقطاعات أخرى (كرة القدم مثلا!) موارد مالية كبيرة جدا، كان يمكن أن تسهم في تجويد التعليم وتحسين مردوديته.

يدفع المغرب، اليوم، دولةً ومجتمعا، ضريبة التخلي عن التعليم ورهنه لحسابات الصراع السياسي. ونتيجة ذلك أن هناك أجيالا لا تتوفّر على الحد الأدنى من المؤهلات التي تمكّنها من البقاء على مقاعد الدراسة، بحيث يصبح حلمها محصورا في البحث عن قوارب تقلّها إلى شواطئ أوروبا بحثا عن أفقٍ أفضل. وفي انتظار تحقيق حلمها الأوروبي، تغدو مُدرجات الملاعب متنفسا لها لتصريف فائض الحقد الاجتماعي تجاه الدولة والمجتمع على حد سواء.

في الدول المتخلفة، حيث يتحالف الاستبداد والفساد لتعطيل عجلة التنمية، يعتقد الساسةُ أن إرساء أنظمةٍ تعليميةٍ جيدةٍ سيُفضي إلى ارتفاع أعداد المتعلمين، وتوسيع قاعدة الطبقة الوسطى الحضرية، وتنمية الحسّ النقدي داخل المجتمع، وتغذيةِ المعارضات بالأطر والكوادر والمثقفين، وبالتالي، تهديد مصالحهم التي يتوازى الحفاظ عليها، بالضرورة، مع الاستثمار في الجهل. لكنهم يُغفلون أن كلفة التعليم، مهما بدت باهظة، لا يمكن أن تقاس بكلفة الجهل الذي بقدر ما تتسع قاعدته وتتنوع مواردُه يصبح خطرا حقيقيا يستهدف السلم الاجتماعي، ويهدّد المجتمعات بِجرفها نحو العنف والجريمة والتخلف. والمقاربة الأمنية، مهما كانت ناجعة، مرحليا، لن تسهم في حل معضلة أجيال حُكم عليها بالإقصاء الاجتماعي.