المستقبل والحاضر حسب بوتين بوصفهما تاريخاً مظلماً

05 أكتوبر 2022

بوتين يلقي خطابا في موسكو بعد إعلان ضم أربع مناطق أوكرانية إلى روسيا (30/9/2022/Getty)

+ الخط -

يُحسَد من يتحمّل قراءة أو سماع ما يتفوّه به الفاشيون والقوميون والشعبويون والمصابون بعقدة التاريخ، والمتيمون ببناء مستقبل يتجاهل الحاضر ووقائعه. هؤلاء كثر في هذه الأيام. لعلهم جميعهم يتوقون إلى الاصطفاف وراء فلاديمير بوتين. لطالما كان يُنظَر إلى بوتين أنه رجل سياسة براغماتي. شعبوي وأيديولوجي وقومي متعصّب لقوميته وأرثوذكسيته، لكنه سياسي براغماتي رغم كل شيء، يغلّف عقائده المعادية لليبرالية بقشرةٍ من المصالح، ويبرّر كرهه الغرب والديمقراطية بكلام سياسي حمولته العقائدية معقولة. قبل 30 سبتمبر/ أيلول 2022، كان لمشروع بوتين أعياد ميلاد كثيرة، يحفظ التاريخ منها خصوصاً اثنين: خطاب مؤتمر ميونخ للأمن في فبراير/ شباط 2007، ثم خطاب منتدى بطرسبورغ (يونيو/ حزيران 2022). أما في 30 سبتمبر، أي يوم الجمعة الماضي، فهو ربما يكون التاريخ الأبرز للمشروع البوتيني، لكن ليس لأنه شهد توقيع قرار ضمّ المناطق الأوكرانية التي يحتلّها جيشُه، ويخسر سيطرته عليها بالتدريج. على ما يحتويه الحدث من خطورة لناحية أنه يرسي، بشكل غير مسبوق، سرقة أراضي دولة أخرى مستقلة وموجودة منذ عقود، وإزالة حدود دولية، وإلغاء وجود بلدان واختراع أخرى بفضل الوحشية العسكرية، فإنّ شيئاً آخر أكثر خطورةً كان يجري في هذه المناسبة: كان العالم يستمع إلى خطابٍ مرعبٍ يخرج من الكرملين.

يوم الجمعة الماضي، شعر بوتين بأنه حان الوقت، وهو داخل إلى عامه السبعين، لكي يتخلّى عن الواجهة السياسية البراغماتية التي تظلّل سلوكه وخطابه السياسيين منذ ربع قرن. فداحة ما قاله بوتين لا تحتاج تعليقاً، وهنا ترجمة لفقرات مجتزأة لا محرّفة:

ــ الغرب يرفض القيم الأخلاقية، والأديان، والعائلة والعادات. ــ نخب الغرب تجسد قيما شيطانية، بينما نحن نمثل القيم التقليدية. ــ هل نقبل أن يُعرض على أطفالنا إجراء عمليات جراحية لتغيير جنسهم؟ ــ نحن نحارب من أجل روسيا العظمى التاريخية. ــ الحقيقة تدعمنا، روسيا تدعمنا. ــ الغرب الإمبريالي يخشى روسيا. ــ يجب أن نذكّر الغرب بأنه بدأ سياساته الاستعمارية منذ القرون الوسطى. ــ النخب الغربية لا تزال مثلما كانت: مستعمرة لا تكتفي بتجاوز السيادة الوطنية والقانون الدولي، إنما أيضاً ترسي هيمنة توتاليتارية ومستبدّة وقائمة على الفصل العنصري. ــ الغرب لا يحقّ له الكلام عن الديمقراطية. ــ ثقافتنا وتقدّمنا هما تهديد للغرب. ــ الغرب قرّر أن يُخضع العالم كله لديكتاتوريته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. ــ الغرب يسعى لتحويل روسيا إلى مستعمرة، أما روسيا فقد فتحت إمكانات التقدم لشعوب عديدة. - ضمّ المناطق الأوكرانية أمر تنبأ به التاريخ.

كل الديكور كان مناسباً لمهرجان الكرملين. آلاف المحتفلين بالجنون في الساحة الحمراء. مئات المدعوين الرسميين من محامين وحكام مناطق في قاعة سانت جورج في الكرملين، إحدى أعرق منشآت المبنى الفخم، يصفّقون لبوتينهم ويقفون مهلّلين كلما نطق أو عبس أو ابتسم، على نسق ديوانيات بشار وحافظ وصدام. والحالم بإحياء بطرس الأكبر يتوسط موظفين صغاراً يتسابقون على مسك يديه لكي يهتفوا جميعهم كمراهقين في مباراة كرة قدم: روسيا… روسيا… روسيا.

37 دقيقة من خطاب حربٍ سمّاها "وجودية" مع "الغرب ــ العدو". خطاب كراهية، تحريف للتاريخ والحاضر، صراع حضارات، أشرار وأخيار، استحضار أجداد قيصريين وسوفييت، خطاب يريد عالماً مقسوماً إلى فسطاطين، نحن وهم، الأخلاق والفاقدين الأخلاق، جماعة القيم وجماعة تغيير جنس الأطفال! خطاب أمّه نظرية المؤامرة وأبوه سرد عالمثالثي ممجوج. اختلاق أحكام رجعية مطلقة، وعود بمستقبل ينتمي إلى ماضٍ مضى منذ قرون. خطاب مليء بـ"الأبد" أيضاً كحتميات البعثيين والسوفييت، ويعبق بكل صفات "العظمة والوطن الأم"، ويريد أن يقنعنا بأن النموذج الذي سيولد من رحم عودة روسيا القيصرية يحترم الإنسان وحريته ورفاهه وحقوقه أكثر مما يفعله الغرب والليبرالية والديمقراطية والحداثة والتنوير في حال عمّوا المعمورة، معاذ الله.