المراجعات الوطنية السورية الملحّة المؤجّلة
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.
لم تجر القوى السياسية والشخصيات الوطنية التي أعلنت التزامها بأهداف الثورة السورية، وتبنّت مطالب السوريين المنتفضين على حكم سلطة آل الأسد، وشاركت في مواقع قيادية ضمن الهيئات التي تشكّلت لدعم الثورة؛ لا سيما في المجلس الوطني السوري والائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، مراجعة نقدية شاملة مطلوبة لما حدث، بغية تحديد عوامل الخلل، وطبيعة الأخطاء التي كانت، وأدّت إلى تقزّم هيئات المعارضة الرسمية، وترسيخ روحية التباعد بين النخب السياسية من الاتجاهات والانتماءات المختلفة، وهيمنة الذهنية الاتكالية والتعلق بقشّة، كما يُقال، والمراهنة على الحلول السحرية "الإعجازية" التي تفتقر إلى مقوّمات النجاح على الصعيد الواقعي؛ هذا، رغم مرور ما يقارب 13 عاماً على انطلاقة الثورة السورية، فالإسلاميون، والمعني بهم هنا "الإخوان المسلمون" تحديداً، لم يُنجزوا المراجعة النقدية المنهجية العلنية الضرورية؛ ولم يحاولوا بجدّية معرفة أسباب تحوّل النظرة إليهم داخل المجتمع السوري، فقد كانوا يعتبرون في أوائل الثورة من القوى الأساسية التي أصبحت جزءاً من المجلس الوطني السوري (تأسّس في صيغته النهائية في 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2011) إلى جانب إعلان دمشق. ومن ثم كان لهم دورٌ لافت في مرحلة "الائتلاف" إلى جانب قياداتٍ أساسية من إعلان دمشق، والمجلس الوطني الكردي، والقوى العربية والتركمانية والسريانية الآشورية والكردية، إلى جانب الشخصيات الوطنية وممثلي الحراك الشبابي والمجالس الشعبية والفصائل العسكرية.
ورغم تعرّض المجلس الوطني السوري لحملة دعائية مغرضة من قوى وشخصيات سياسية محلية سورية، وأخرى وظيفية وافدة، بناء على توافقات مع النظام والقوى الإقليمية والدولية الراعية لها. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى هيئة التنسيق وحزب العمال الكردستاني بواجهاته المختلفة؛ وبعض الشخصيات القريبة منهما؛ كما تعرّض المجلس لحملات شرسة من شبّيحة السلطة الأسدية، ومن شخصيات سياسية وثقافية كانت حريصة على استمرارية جسور الودّ مع السلطة المعنية. وكان محور الحملة أن المجلس ينوء تحت ضغط الإخوان المسلمين، وأنهم هم الذين يتحكّمون بتوجهاته وقراراته، في حين أن الرؤية العامة للمشاركين في بناء المجلس، ومعظمهم كانوا من خارج دائرة "الإخوان"، تمثلت في المشروع الوطني السوري الذي كنّا، وما زلنا، نرى أنه المخرج للجمع بين كل السوريين.
"الإخوان" كانوا في عجلة من أمرهم، استناداً إلى قراءتهم لمتغيّرات المنطقة، وللمتغيّرات التي كان يتوقعونها سورياً
ومن جهة أخرى، كانت مجموعة من الدول من التي أعلنت وقوفها إلى جانب ثورة السوريين، ومن بينها دول عربية، لا تنظُر بارتياح إلى وجود "الإخوان" ونفوذهم داخل المجلس؛ وتعبّر عن ذلك صراحة. ومع ذلك كنا ندافع عن توجّهنا، انطلاقاً من قناعاتنا بضرورة جمع سائر القوى السياسية المعارضة في مواجهة سلطة آل الأسد. ولكن ما لاحظناه، وعانينا منه، أن "الإخوان" لم يقدّروا هذا الأمر، كما ينبغي، ولم يأخذوا المخاطر التي كانت تهدّد الثورة السورية على محمل الجدّ، وكانوا في عجلة من أمرهم، استناداً إلى قراءتهم لمتغيّرات المنطقة بصورة عامة، وللمتغيّرات التي كان يتوقعونها سورياً على وجه التخصيص.
وبالتناغم مع توجّههم هذا، لم يحدّدوا موقفهم بوضوح من التنظيمات الجهادية المتشدّدة (جبهة النصرة وداعش مثالاً) في الوقت المناسب، وهي التنظيمات التي دخلت، أو أُقحمت، إلى الساحة السورية، واستقطبت جزءاً لافتاً من السوريين في الوسط العربي السنّي، الأمر الذي أثار المخاوف لدى المكوّنات المجتمعية السورية الأخرى، وأسهم في إضفاء قسط من المصداقية على سردية سلطة آل الأسد واستراتيجيتها التي كانت ترمي إلى إبعاد سائر المكوّنات السورية عن الثورة، ليبقى المكوّن العربي السني وحده في المواجهة، وبالتالي، تصبح عملية الربط بين الثورة والإرهاب أسهل للسلطة المعنية.
كل هذه الأسباب وغيرها، لا سيما التي لها علاقة بالمشاريع العسكرية الخاصة، تنتظر مراجعة إخوانية بينيّة جادّة، وإعلان نتائجها بصورة واضحة. أما الإصرار على أن كل ما حصل كان من الأمور العادية التي لا تحتاج أي مراجعة ومساءلة وتحمّل المسؤولية، فهذا لم ولن يساهم في لملمة الشمل، ولن يساعد في التئام الجروح السورية المفتوحة.
كل ابتعاد عن الشأن العام في اللحظات التاريخية الحاسمة، بناء على نزعات ذاتية، أو نتيجة خلافات فردية مزمنة، خطأ جسيم
والأمر نفسه بالنسبة إلى القوى والشخصيات القومية واليسارية والليبرالية والعلمانية، سواء التي انضوت تحت لواء المجلس، أم التي ظلت خارجه، فهي الأخرى تحتاج مراجعاتٍ جادّة، تبرز مواقع القصور، وتبلور الأساليب التي يمكن اعتمادها لتجاوز آثار التراكمات السلبية التي كانت، فكثير من هذه القوى والشخصيات لم تتعامل مع الواقع السوري المتنوّع التعدّدي القابل للاستثمار من أصحاب المشاريع الإقليمية العابرة للحدود كما ينبغي؛ واعتقدت، بناء على خلفياتها الأيديولوجية، وقراءاتها الخاصة لما كان يحدُث، أن السلطة ستسقط خلال فترة قصيرة، استناداً إلى تجارب تونس ومصر وليبيا؛ فلم تركّز على ضرورة طمأنة السوريين وأهميتها، وتعزيز الثقة المتبادلة في ما بينهم، وإيجاد الآليات المناسبة لتلافي الخلافات. وما قدّم من مراجعاتٍ ترمي بصورة عامة إلى تبرئة الذات، وتحميل الآخرين المسؤولية، والآخرون هنا القوى السورية والشخصيات السورية، سواء في المجلس أم في خارجه؛ أو القوى الدولية والإقليمية.
أما المراجعات المطلوبة من القوى والشخصيات التي ظلت خارج المجلس الوطني، فهي التي من المفروض أن تجيب عن السؤال الخاص بسرّ موقفها العدائي منه، وعجزها عن تحديد ملامح البديل الواقعي، غير المثالي النظري، فالمجلس، في الظروف البائسة التي كانت تعيشها المعارضة السورية التقليدية، والخلافات الشخصية والشللية التي كانت تُثقل كيانها، كان يعدّ مشروعاً وطنياً مفتوحاً، وخطوة واعدة في العمل السوري الوطني المشترك الداعم للثورة. ولكن هذه الخطوة، عوضاً عن أن تلقى الدعم والتأييد، هوجمت من المعنيين بعقلية عدمية متشدّدة، وكانت حملات هؤلاء عليه أشدّ ضراوة من حملتهم على النظام نفسه. لذلك نقول: ألم يحن الوقت بالنسبة إلى هؤلاء ليقوموا بالمراجعات المطلوبة، عوضاً عن تسويق المماحكات النظرية التي لم، ولن، تُخرجنا من دوّامة العبث، التي تستهلك الوقت والجهد من دون نتيجة. ففي كل يوم نسمع هنا وهناك من يُحمّل المجلس الوطني مسؤولية الأخطاء مقابل تفاخر بعضهم بأنهم لم يرتكبوا أي خطأ، متناسين أن من لا ينخرط في الشأن العام في الأوقات المفصلية، ويكتفي بدور الناقد الناصح المثالي لا يرتكب الأخطاء بالمعنى النظري المجرّد. بينما على الصعيد الواقعي يعد كل ابتعاد عن الشأن العام في اللحظات التاريخية الحاسمة، بناء على نزعات ذاتية، أو نتيجة خلافات فردية مزمنة، خطأ جسيماً تظهر نتائجه وتبعاته في مرحلة التراكمات السلبية، وهي المرحلة التي نعيشها.
كثيرون شككوا في دوافع الانتفاضة الثورية في السويداء وأسبابها، وتجاهلوا رمزيّتها الوطنية
والمواقف التي أعلنتها أخيراً أحزابٌ وجمعياتٌ سورية التي تشكّلت حديثاً في مرحلة الثورة، أو حتى التي أعلنتها الأحزاب التقليدية، وتحدّث عنها ناشطون وفاعلون في الميادين الإعلامية والمجتمع المدني حول ما حدث ويحدث في السويداء، ومنطقة دير الزور، تعكس، إلى حدٍ كبير، مدى حاجة السوريين إلى إجراء المراجعات الضرورية، وتجاوز مرحلة التغنّي بالشعارات ودغدغة العواطف، للوصول إلى مرحلة بلورة معالم المشروع الوطني بصورة واضحة، لطمأنة سائر المكونات المجتمعية السورية، وتعزيز الثقة في ما بينها. ولن يكون ذلك من دون تجاوز عقلية المظلوميات، فهذه المظلوميات غالباً ما تتحوّل إلى تُربة صالحة بالنسبة إلى القوى المتشدّدة دينياً ومذهبياً وقومياً، وهي القوى التي تضع العراقيل أمام أي مشروع وطني سوري جامع. فكثيرون شككوا في دوافع الانتفاضة الثورية في السويداء وأسبابها، وتجاهلوا رمزيّتها الوطنية، وأغفلوا دورها في كشف تهافت حجج سلطة آل الأسد. بينما يستوجب الموقف الوطني التفاعل مع هذه الانتفاضة المستمرّة، خصوصاً في المدن الكبرى، ونعني هنا دمشق تحديداً، فهناك إمكانية وظروف وشروط ناضجة للحديث عن عصيان مدني عام، خصوصاً في الظروف المعيشية البالغة القسوة غير المسبوقة. وأي تحرّك مدني سلمي من هذا القبيل سيضع النظام ورعاته أمام مأزق كبير، خاصة في ظل الظروف الإقليمية والدولية المستجدّة.
تحميل الكرد مسؤولية تجاوزات "قسد" وانتهاكاتها توظيف قصدي من القوى المحلية، المرتبطة بمشاريع خارجية
الحدث الآخر يخصّ منطقة دير الزور التي شهدت، أخيراً، مواجهة عسكرية بين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) وزعامات عشائرية كانت أصلاً شريكة لـ "قسد"، أو كانت على علاقة وثيقة مع النظام؛ ودخلت على الخط قوى أخرى معروفة بولاءاتها العلنية للمشروع الإيراني، ومارست بلغة سوقية عنصرية تجييشاً قومياً مشبوهاً، بغرض التغطية على مواقفها، وبقصد تفجير الأوضاع بين الكرد والعرب، الأمر الذي لن يكون، في جميع الأحوال، إلا لمصلحة آل الأسد والإيرانيين. هذا في حين أن "قسد"، بانتمائها القنديلي (قيادات كردية في جبل قنديل) لم تقطع، هي الأخرى، الصلة لا مع السلطة ولا مع الإيرانيين، وهي حريصة على عدم مواجهة المشروع الإيراني في المناطق التي تهيمن عليها. أما تحميل الكرد مسؤولية تجاوزات "قسد" وانتهاكاتها فهذا توظيفٌ قصدي من القوى المحلية، المرتبطة بمشاريع خارجية.
شهدت السنوات الأخيرة عقد اجتماعات ولقاءات في أماكن مختلفة بين السوريين من مختلف التوجّهات، ولكنها لم تنتج المطلوب بكل أسف. ولعل ذلك يجد تفسيره في استمرارية الهواجس الفردية والجماعية، والإصرار على تسويق الوصفات القديمة التي لم تعُد صالحة للتعامل العلاجي مع الأوضاع المستجدة... هل حانت اللحظة الحاسمة في أجواء انتفاضة السويداء الجميلة الواعدة لتوحيد السوريين ضمن إطار مشروع وطني سوري عام جامع، يطمئن سائر السوريين من دون أي استثناء؟ أم أن قوى التشكيك، والعقليات الانتقامية ونزعات الاستقواء بغير السوريين على السوريين ما زالت من العوامل المؤثرة في ميدان إضعاف المصداقية، وإعاقة العمل السوري الوطني المشترك؟
كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.