المجتمع الإسرائيلي وثمن الاحتلال
يؤكد كتابٌ جديدٌ صدر في إسرائيل أخيراً أن المجتمع اليهودي، في معظمه، مُستنقعٌ حتى إشعار آخر، في ما يصفه بأنها "منطقة مريحة" بالنسبة إلى كل ما يتعلق بالصراع مع الفلسطينيين، وتغلب على مواقفه حيال هذا الصراع سمتان رئيسيتان، الإقصاء والإنكار، ولا تنتابه أدنى مشاعر ذنب أو خجل إزاء ما كان ولا يزال يتمّ اقترافه من جرائم وآثام.
والكتاب من تأليف دانييل بار- طال، وهو باحث واختصاصيّ نفسانيّ، اجتماعيّ، سياسيّ، سبق له أن شغل منصب رئيس "الشركة العالمية لعلم النفس السياسي"، ووظيفة محاضر في جامعة تل أبيب، وعميرام رفيف، وهو اختصاصيّ نفساني علاجيّ وتربوي ومحاضر في جامعة تل أبيب. ولكليهما مساهماتٌ عديدة في تبيان الأساس النفساني - الاجتماعي الذي يقف عليه الصراع المذكور، وفي تحليل العوامل والمنظومات والسيرورات النفسانية الضالعة في الصراع، سيما التي تؤثر بصورة بالغة على إدراك المجتمع اليهودي الواقع بقدر ما تؤثر على السلوك الجماعي لهذا المجتمع، وسبق أن توقفنا عندها في أكثر من مناسبة.
وفقًا للكتاب، شهدت إسرائيل، في الأعوام الأخيرة، تدهورًا في كل مستوياتها. وعلى الرغم من ذلك، أعداد المحتجين على هذا التدهور لم تتجاوز عشرات الآلاف الذين استقطبتهم التظاهرات ضد فساد رئيس الحكومة السابق، بنيامين نتنياهو، في حين بقيت غالبية الإسرائيليين متمسكةً بمفاهيمها الاجتماعية - السياسية - الاقتصادية التي تكاد تستحيل إلى مفاهيم صنميّة. وهذا ما أظهرته مثلًا نتائج جولة انتخابات مارس/ آذار الماضي، والتي ذهبت فيها أكثرية الأصوات إلى أحزاب الليكود و"يمينا" (نفتالي بينت) و"إسرائيل بيتنا" (أفيغدور ليبرمان) و"أزرق أبيض" (بيني غانتس) و"أمل جديد" (جدعون ساعر) وأحزاب اليهود المتشدّدين دينيًا (الحريديم)، الأمر الذي يقرأ فيه المؤلفان أنه تعبير عن تأييد استمرار الاحتلال في أراضي 1967، واستمرار الصراع القومي، ودعم الاقتصاد النيوليبرالي، وتوسيع الفجوات الاجتماعية، والعنصرية إزاء المواطنين العرب، وتقليص الديمقراطية، وتعزيز النزعة العرقيّة، وترسيخ التربية الفاسقة غير المنطوية على الانفتاح والنقد، والمسّ بالرفاهية. كما أن في هذه النتائج ما يُثبت انعدام الفجوة بين القيادة وأغلبية الجمهور.
ويعدّد الكتاب الأسباب التي تؤجّج هذا الاستنقاع. وفي مقدمها أنه نتيجة التعوّد على العيش في وضعية صراعٍ يُنظر إليها بأنها جزء من تاريخ اليهود على مرّ العصور. يُضاف إلى ذلك أنه، بتأثير صيرورة ما تُعرف بـ"عملية التسوية" التي بدأت في تسعينيات القرن الفائت، تكرّس في أوساط الإسرائيليين حكمٌ منحرفٌ وانتقائيٌّ ومختلٌّ يلقي أوزار المسؤولية عن جذور الصراع واستمراره، وعن منع الوصول إلى حلّ له على كاهل الخصم فقط. وهذا الحكم يتمحور، بصورة حصرية وإطلاقية، من حول "عنف" الخصم وحده ويحول، في العُمق، دون أي تعاطفٍ وجداني حياله، ودون أي اعتبار لحاجاته. وهكذا تشكّل النظرة السلبية إلى الفلسطيني، برأي المؤلفين، واحدًا من العوامل التي تمنع التقدّم إلى الأمام في أي "عملية سلام" معه.
غير أن السبب الأهم في عُرف المؤلفين يبقى كامنًا في أن جزءًا كبيرًا من الجمهور الإسرائيلي بات مقتنعًا، مثل زعمائه، بأنه يمكن العيش مع الصراع في الوقت الحالي وكذلك في المستقبلين، القريب والبعيد. وما يوطّد هذه القناعة أن ذلك الجزء الأكبر من الجمهور الإسرائيلي، وكذلك زعمائه، يعتقدون أن إسرائيل لا تدفع ثمنًا باهظًا جرّاء استمرار الاحتلال في أراضي 1967 وديمومة الصراع. وبناء على ذلك، يجري تكييف النفس مع هذا الواقع ومواصلة الحياة وكأنه لا وجود لاحتلال وقمع والنأي بالنفس عن أي مشاعر ذنب أو خجل.
يؤكد المؤلفان أن ما يسعيان إليه هو وضع المجتمع الإسرائيلي أمام المرآة عبر جلوسه على أريكة تحليل العوامل النفسية - الاجتماعية التي تسبّبت بما آل إليه في الوقت الحالي، من دون الرغبة في طرح السبيل المُرتجى للخروج من المآل الراهن. ولا شك في أن من شأن مقولة عدم دفع إسرائيل ثمن الاحتلال أن تحيل إلى أفقٍ مُؤجلٍ قد يجلب نتائج مغايرة.