المباركية الجديدة: إبراهيم عيسى وانسيابيون آخرون
ظهر جمال مبارك مجددًا، بعد اختباء مدة تسع سنوات، لم يقطعه سوى بعض المشاهد بملابس السجن، أو في قاعات المحاكم، أو في بعض الجنازات.
ظهر هذه المرّة، مرتديًا شعار "ها قد عدنا" شاهرًا سيفه في وجه التاريخ، معلنا خطوات الثأر من تلك اللحظات التي بدّدت حلمه في عرش مصر.
هذا كله يمكن استيعابه وتفهّمه، إذا وضعنا في الاعتبار أن صنّاع تلك اللحظة الخالدة التي منعت دخول مصر في عصر "الملكية المباركية"، باعتماد مبدأ توريث السلطة، قد تلقّوا من الضربات العنيفة والهزائم الفادحة، ما يجعل أقصى ما يحلمون به هو إخراج خنزير الاستبداد من الغرفة الضيقة المتهالكة التي توشك على الانهيار فوق رؤوسهم .. صاروا يفضّلون البقاء تحت أنقاض البناء الذي يوشك أن ينقضّ على الموت اختناقًا بروائح الاستبداد.
هو يدرك أن ذاكرة الناس منهكة، إلى درجة ادّعاء النسيان وتجاهل الوقائع والتاريخ، سعيًا وراء فتحة صغيرة في جدار الغرفة الخانقة، لكن الأمر الذي يبدو محيرًا جدًا، وأكثر إثارةً للقرف من انبعاثات روائح الغرفة هو هذا التحول الكامل في المواقف من عصر حسني مبارك وولده، وخصوصًا من الذين كانوا يبتزّون الناس بحكاياتهم عن قيادة النضال الجسور ضد مبارك ونظامه وفساده واستبداده، وريادتهم في الحرب الوجودية على مشروع جمال مبارك، أو بالأحرى توريث جمال مبارك.
لم يضيّع إبراهيم عيسى وقتًا يذكر في ارتداء أزياء جديدة تليق بمهرجان استقبال العائد جمال مبارك، فوجدناه وقد صار أكثر انسيابيةً من لاعبة جمباز أوليمبية، وهو يعلن في استقبال مبارك الابن ما يلي:
"جمال وعلاء مبارك ولاد أصول ومتربيين كويس"، وأضاف "أنا لا أصادر حق أحد في الحديث والتعبير عن رأيه، لا السيد علاء مبارك ولا السيد جمال مبارك ولا أي حد يقول رأيه ويتكلم، وأن جمال مبارك ظهر في البيان شديد الدماثة والاحترام". وعن مبارك نفسه، قال "الرئيس مبارك لم يكن تشغله أمور الأموال إطلاقًا، لذا فإنه يصدّق أن الرئيس الراحل وحرمه لم يكن لديهما أي أصول في الخارج. وتابع "عمره ما كان شاغله حكاية الفلوس".
بالطبع، من حق إبراهيم عيسى أن يرتدي ما يشاء فيما يتوهمه تشريفة لزعيم جديد قادم، أو حتى يتخيّر ما يحب من العبارات وينثرها على الموكب، كما يحدُث في حفلات الزفاف، غير أنه يبقى من حقّ الذين يستهدفهم إبراهيم عيسى بأعواد البخور التي يستقبل بها من يظنّه جمال مبارك جديدًا ومختلفًا، ومعتمدًا من المؤسسات الدولية، أن يحصلوا على إجاباتٍ تتعلق بأمرين مهمين: الأول كيف جاء عيسى بكل هذه الانسيابية في الأداء وهو في هذه السن .. أما الثاني، وهو الأهم، فهو كيف تغيّر جمال مبارك في عينيه بهذه السرعة وهذا الانقلاب الصاخب؟
كان حسني مبارك بنظر إبراهيم عيسى قبل ثورة يناير 2011 محض سمسارٍ يوفق بين رأسين ويحصل على أجره، فتقرأ مثلاً في كتابه المعنون "مبارك وعصره ومصره" سخريةً لاذعةً مما وصفه بالكلام الحالم عن أن مصر دولة رائدة في المنطقة، ليجزم بأنها "الآن دولة يلعب نظامها دور الدولة الوسيطة وسمسارة سياسيا مهمتها إجلاس البائع مع المشتري على أن تقبض هي عمولتها السياسية".
أما عن الابن، مشروع الوريث، فيقول: "ما الذي يريده جمال مبارك من الحياة وقد امتلك شركة رأسمالها أكثر من ستمائة مليون جنيه، وقد أمن ماله وأمن على مستقبله المادي، ومارس النفوذ والسلطة منذ كان صبيًا ابن نائب الرئيس حتى صار كهلًا ابن ذات الرئيس؟ ما المغرى جدًا إلى هذا الحد وبكل هذا القدر الذي يجعل صاحب المنصب والسلطة ملتصقا بها في عالمنا الثالث وفي مصرنا المنهوبة الملولة؟".
ليت إبراهيم عيسى يقرأ كتابه، قبل أن يُتحفنا بكل هذا المديح الاحتفالي بعودة جمال مبارك، الذي كان يتعيّش وينتعش ويتضخم على حساب التفرغ للكلام عن فساده والعائلة، بصفةٍ يوميةٍ في جريدة "الدستور" التي كانت سعيدة جدًا بهدايا الإخوان المسلمين، كما كان "الإخوان" سعداء بها، ويدعمونها باحتضان كامل.
ليته يفعل ذلك، من دون أن نصادر حقه في الترحيب بما يتوهمها "عودة المباركية الجديدة"، فنحن أيضًا سعداء بعودة مبارك الابن إلى الساحة، ذلك أن التاريخ القريب ينبئنا بأننا نكون أقرب إلى التغيير واستعادة الروح والوعي كلما ازداد ظهور جمال مبارك على المسرح.