اللجنة الدستورية السورية تفخّخ الهويّات القومية
طرح وفدا الحكومة والمجتمع المدني السوريان القادمان من دمشق، ضمن الجولة السابعة للجنة الدستورية، مبادئ عن هويّة الدولة ورموزها، كالشعار والنشيد والهويّة والشعب واللغة والحضارة في سورية، أنها عربية خالصة، ولا وجود لمكونات أو هويّاتٍ فرعية خاصة. وبالمنطق الوطني السليم، كان ينبغي العمل على عدم طغيان العروبة على الهويّات القومية غير العربية، بدلاً من منح المساحة الكاملة للعروبة في النص الدستوري المقترح على حساب الهويّات واللغات والثقافات والحضارات والانتماءات للمكونات غير العربية. وتالياً، تحولت الهويّة السورية المقترحة من هويّة مكون ثقافي محدد وجزء من الهويّة السورية الجامعة إلى مشروع هويّاتي عروبي لكل سورية. وهذه كفيلةُ بشرعنة عقودٍ قادمةٍ من العنف، واستدامة النزاعات بين المكونات السورية، فالطرح الهوياتي والرموز لسورية المستقبل جاءت سحقاً لحساسيات الأطراف القومية غير العربية، كرداً وآشوريين وغيرهم، بدلاً من منحها الطمأنينة لتوحيد البلاد، ليصبح ترسيخ الانقسام الجغرافي أكثر رواجاً. علما أن الهويّات القومية التي قارعت وصارعت في سورية لم تكن هوساً لحظياً عابراً، هيّجتها التغيرات البنيوية العميقة التي حصلت في سورية منذ 2011، بل كانت هويّات مرنة جداً خلال العقود الماضية، طالبت بما يحفظ لها كيانها وأهميتها. ومن الطبيعي أن تتأثر شدّاً وجذباً بالمستويات الأمنية والسياسية التي شهدتها سورية خلال نصف قرن، وستسعى إلى المنفعة السياسية، حين تُهيأ الظروف، وستتراجع ما إن تستشعر خطراً وجودياً، هكذا تقتضي سياسية الحفاظ على الوجود من الاندثار والانتهاء.
في نهايات القرن الماضي، شكّل تفكيك الاتحاد السوفييتي إيذاناً بإعادة اكتشاف النص الهويّاتي لدى كل الجماعات القومية في العالم عامة، ودول الشرق خصوصا؛ لأن انتهاء الحرب الباردة أعادت إحياء الهويات القومية للشعوب المغايرة جميعاً، ومن بينها الكرد والآشوريون، لكن سرعان ما عادت الهويّات لتخبو مجدّداً بعد ذلك؛ كنتيجة للتحالفات السياسية الإقليمية والدولية، وتفضيل مصالح تلك الدول على حقوق الشعوب. ومع بروز حقبة عالم التقانة، استغلتها النخب الكردية والآشورية عبر المنتديات السياسية والأدبية والندوات المنوعة، والتي كانت إبرازاً للهويّة القومية، وخلال الأعوام التي سبقت الحدث السوري في2011، شهدت الهويّات الفرعية نمواّ مشهوداً في ممارسة مهامها وأدوارها القومية، والسعي صوب الاندماج أكثر في الهويّة السورية الجامعة، مثل الانخراط ضمن الحركة السياسية السورية، ممثلة بهيئة التنسيق الوطنية وإعلان دمشق، لكنها بقيت تصطدم بقضية غياب أيّ تمثيل هويّاتي خارج الهويّة العربية، وهو ما شكّل سداً أمام المطلب الهويّاتي القومي في سورية عبر ثلاثة مؤشرات واضحة، أولها: استمرار تهمة "اقتطاع أجزاء من الجمهورية العربية السورية وإلحاقها بدولة أجنبية، وهي التهمة التي دوماً ما اعتقلت النخب السياسية والثقافية بموجبها، فكانت بمثابة سحق أي تطلّع هويّاتي خارج هويّة العروبة؛ كونها تهمة خاصة للقوميات بتمزيق كيان وهويّة سورية العربية. والثانية: ما شهدته قامشلو في انتفاضة 2004، من اعتقالات وقتل على الهويّة، والأكثر تجريحاً كان مواقف بعض الأطراف المعارضة آنذاك حيال ما جرى، وترويج أسطوانة الانفصال عوضاً عن إيجاد مخارج لحالة الاحتقان المتزايدة، والثالثة: إهمال نتائج حالة الغليان الشعبي القومي وزيادة الخناق على الأنشطة القومية كما حصل في أغلب أعياد النوروز، العيد القومي، ورأس السنة الكردية، ولدى مثيلها عيد الأكيتو لدى الآشوريين.
لم تصل قضية الهويّات إلى مستواها المنشود، وتأخر التطور المطلوب لها ضمن الأدبيات السياسية والثقافية السورية
وقد أملت المكونات والشعوب في سورية أن فترة الطمس والإنكار انتهت وانقضت إلى غير رجعة؛ كون المقاربات النظرية الرئيسية للطروحات الهويّاتية تغيّرت بسبب تدخل العولمة في شرح حقوق الهويّات القومية، وبلورة نظام عالمي قائم على التعدّدية السياسية والهويّاتية، وأن عقدا من الدماء كفيلٌ بعدم العودة إلى مربع القمع وإلغاء الآخر، هكذا تقول المرويات التاريخية عن الاستقرار والتحول الديمقراطي في بلدان ما بعد النزاع. لذلك تسببت التظاهرات والأحداث في سورية منذ 2011 بانقلاب في الانتباه والحضور الكلي للذاكرة والمخيلة والهويّة الكردية / الآشورية ضمن سورية، لتشهد إعادة نهوض جديد لمفهوم وخصوصية الهويّات الفرعية، وشكلت مبدأ ناظما وجوهريا للعلاقة بين النُخب الشعبية والسياسية الكردية والآشورية مع المعارضة السورية، والتسليم بأن الشرعية السياسية لهويّاتهم هي المصدر النهائي لطبيعة العلاقة بينهم وشكلها ونسقها. وبل إن احترام الخصوصية السياسية الثقافية لتلك الهويّات بصفتها إطاراً معرفياً ومرجعياً وخطابياً، وسياقاً للتعامل اليومي المستقبلي، كان يهدف من ذلك إلى أن تشكّل الهوّيات الفرعية في سورية أفقاً للخطاب السياسي التشاركي لمستقبل العلاقة بين القوميات المتنوعة ضمن الهويّة السورية الجامعة، وإطاراً طبيعياً للتفاعلات السياسية، وتمهيداً لبناء مساق حياتي للتعاملات والتفاعلات اليومية ضمن وطن جديد يحمي كلّ من في داخله.
ومع ذلك كله، لم تصل قضية الهويّات إلى مستواها المنشود، وتأخر التطور المطلوب لها ضمن الأدبيات السياسية والثقافية السورية، ولم تتبلور تلك الهويّة الجامعة لثلاثة أسباب مركبة. أولاً: إطالة أمد الحرب والمأساة السورية والتدخلات الخارجية، التي أخرت وأرجعت قضية الاهتمام بالهويّة الجامعة لصالح تقديم وترجيح نار صراع الهويات. والثانية: حالة عامة من اللامبالاة في تيار التفكير السياسي الأكاديمي والسوسيوثقافي السوري لقيمة الهويّة السورية الجامعة، وتأخر البحث فيه بصرامة علمية أخلاقية والاستمرار في نزعة الإلغاء والإقصاء كما حصل في دستور2012، الذي تعدّ ديباجته تكريساً لتعريب الهويات وإلغاء ومحق كل هوية مخالفة لها، وما تقدّم به وفدا المجتمع المدني والحكومي السوري نزعة واضحة للحفاظ على العروبة مقابل رمي باقي الهويات الفرعية في خانة النسيان، واعتبارها هامشية لا تستحق الأهمية، كما أن مواد الدستور تعد قصة الهويّة والتعدّدية السياسية جزءا مملا ومبتذلا من الحياة الاجتماعية لا تستحق الحديث فيها. والثالثة: غلو النزعة الإقصائية لدى تيارات معينة ضمن المعارضة السورية هدفت إلى تقليص حجم الهويّات الفرعية وتحجيمها واختزالها إلى تمظهرات المواطنة، وإعادة التلويح بعصا وتهمة أن نار الهويات إنما هي عقل الحركات الانفصالية الممهدة لاستغلال وحدة سورية. وراحت تلك الجهات تنظر إلى المطلب الهوياتي القومي أنه زائدة خطيرة وغريبة، وأنّ قضية اللغات الخاصة، كردية وآشورية، ليست من صلب العمل السياسي الوطني.
ما تقدّم به وفدا المجتمع المدني والحكومي السوري نزعة واضحة للحفاظ على العروبة مقابل رمي باقي الهويات الفرعية
متى سيدرك السوريون، نخبا معارضة وحكومية، أن الهويات القومية ليست شيئا يمكن تجاهله، وأن ارتقاء المواجهات التاريخية لتلك الهويات في المجتمع السوري مستمرّ، نتيجة لسببين مركّبين: الإهمال الأخلاقي والسياسي لها في سورية سابقاً وحالياً، والارتباط العميق للشعبين الكردي والآشوري بهويتهما السياسية. لذلك، لا يكفي الاكتفاء بتقديم مجرّد تحليلات ثقافية أو خطابات طمأنة من دون فعل عملي وبحث فكري سياسي عميق ووازن يمهدان لرؤى نظرية مهمة للأجيال اللاحقة. وإذا كانت المعارضة السورية تتشدق بالمواطنة، والحكومات السورية المتعاقبة تتحدث عن المساواة، فإن هذه المواطنة، والتي تستلزم الخضوع للإرادة العامة، لا توجد تلقائياً من نفسها وفقاً لتعبير جان جاك روسو "من أجل تحقيق هذه الدرجة من الوحدة، يجب إيجاد شعور بالفخر والاعتزاز بالانتماء الوطني، حيث يرى كل مواطن في المواطنة خيراً أخلاقياً أسمى". ولا يمكن إيجاد هذا الشعور بالفخر والاعتزاز بالانتماء السوري والمساواة كوعي جماعي مشترك إلا عبر شعور وبرامج وتطبيقات هوياتية جمعية، مساواة في التعريف الحضاري واللغوي والهويّاتي والشعارات بين مكونات المجتمع السوري.
ونظراً إلى غياب المقاربات النظرية المفتاحية للهوية السورية الجامعة، والتي لم تر النور منذ استقلال سورية عن الفرنسيين، فإن مفهوم الهويّة العربية لسورية يحتاج شقلبة في المفاهيم الموجودة، أو إن مزيدا من الانشقاق والانسلاخ الهوياتي سيستمر. إضافة إلى أن القيود المفروضة على الهويّة تدفع بالسؤال عن مستقبل علاقة الكرد/ الآشوريين بالعرب في سورية والتداعيات على دول الجوار.