الكذب ملح الأرض الخراب

24 فبراير 2022

(شارل خوري)

+ الخط -

اللبنانيون في غِنى عن جهاز كشف الكذب. إنّه مستوطنٌ في لسان "المسؤول"، أو "الزعيم" أو الأدنى منهما درجة. ولا واحد منهم مُستثنى من هذه الخُصْلة. وحده الأسلوب يختلف. وأحياناً قليلة الدرجات، أيضاً. بين من يضرب أرقاماً قياسية في الكذب، أو يكذب يومياً، بلا هوادة، أو الذي يبث أكاذيبه باختصار، بالثرثرة، بأناقة، أو بالتمسْكن، أو التباكي، أو بالتخويف أو الابتزاز، بالمزايدة أو الدموع أو الحزن... أو "التضامن" ("بدْنا نتحمّل بعض". توقيع نجيب ميقاتي).

جميعهم تفوّقوا على أنفسهم. جدّدوا معاني المفردات المتنوّعة من الكذب. غذّوها بمائة طُعم وطُعم: من الدجَل إلى الإفك إلى التزوير والتمويه والتلفيق والاختلاق... كذب موسوعي، كذب مبني على كذب.

وكذَبَة محترفون، في الصغيرة والكبيرة. يحيكون أنسجةً من الكذب، سجّادًا من الخيوط الخفية والبائنة، ومن أسرار محفوظة في أرشيف مسروق... ممنوع الاطلاع عليه. وجديلة مربوطة بإحكام بجدائل سابقة من الكذب، متداخلة، متلاصقة، يصعب فصلها. بما يحوّل هذا كله إلى كتلة "معرفية" مكوَّنة من حقائق ضاربة في زيفها وفوضاها، غائمة، مفْتعلة، مجتزأة. وعليك إما أن تقبلها على غشاوتها، وتعيش مرتاح البال، أو أن ترفضها وأنتَ عاجزٌ عن ردّها، فتعزل نفسك وتنطوي، حفاظاً على ما تبقّى لكَ من نداوة، ذلك أنّه مطلوب منكَ جهد خرافي لملاحقة الأكاذيب من جذرها. عليكَ، أولاً، أن تتحقّق من الكلمات التي مرّغ أنفها في التراب. كذبات لغوية شاعت، وصارت بمتناول "المواطن"، كما لو كانت "مطابِقة" لما تعنيه.

الكذب في لبنان مستوطنٌ في لسان "المسؤول"  و"الزعيم" والأدنى منهما درجة

وخذْ على أمثلة: كلمة مثل "صفقة" أرباحها معيبة، غير مشرّفة، يكذبون فيسمونها "تسوية". ولكي لا تنكشف المنافع التحاصصية الواقفة خلفها، لا يتفوّهون بكلمة "تحاصُص". بل يخفونها خلف كلمة "توافق"، الأكثر نُبْلاً. لا يقولون إنّهم يودّون ملء الفراغ بالثرثرة حول طاولة مستديرة، وتحت الأضواء، ويسمّونه "حواراً". هكذا: التوريث السياسي اسمه "حمْل الشعلة". والرشوة اسمها "خدمات". والزبائنية اسمها "تنمية"، وأحياناً "عمل خير". والطائفة اسمها "حزب". والمنافسون والمضاربون اسمهم "حلفاء". والسلطة المتحكّمة اسمها "معارضة شعبية"... وإلى ما هنالك من كلماتٍ تخدم الكذب في صميم اللغة اليومية، فترسّخ التشوّهات اللغوية لتؤبِّد نفسها.

والسؤال الأبدي: إذا كان الكذب متوسّعاً إلى هذه الحدود غير المسبوقة، فما الذي يمنحه كلّ هذه الحياة؟ كلّ هذا الدوام؟ إنّه "الجمهور" المؤمن، المتحمّس، بغير شروط. أي البيئة القاعدة، المؤلِّهة لهذا الزعيم الطائفي أو ذاك. وهي بيئةٌ بمنتهى الضيق والضِيقة. تبصُم بالعشرة على كل ما يُصدره الزعيم من أكاذيب. تعرف أنّه كذبٌ محض. لكنّها تحميه وتفتديه بروحها. وإذا نظر ابن هذه البيئة أو تلك إلى خارجها فلن يجد غير جمهور آخر يعبد زعيمه، الكَذوب بدوره، فيرتدّ على أعقابه.

لن تجد بين حكام لبنان من يلبّي "شروط" مكيافلي، أو من يسير على خطى الديمقراطيات المعاصرة، فالحاكم، أو المتحكِّم لم يحافظ على شيء. لا على نفسه، ولا على الدولة التي اؤتمن عليها

ثمّة سبب آخر، يكاد يكون "كلاسيكياً" عن علاقة الشعب بصدق حكامه. يتساءل مكيافيلي، في "الأمير" عن السبب الذي يجعل كذب الحاكم "مرْبحاً" و"ذا جدوى". والجواب البسيط عنده أنّ الشعب يكافئ الحاكم الكذاب. أول الرابحين هو الكذاب "الأفضل" الأشطر. وهو يعدّد الاحتمالات: إما أنّ الشعب ليس منتبهاً إلى الكذْبة، وهذه من النوادر، أو أنّه يقبل بها، متذمّراً، مسلّماً بأنّه ليس عنده خيار آخر. أي أنّه يفضّل أن يتجاهل الحقيقة، ببساطة. ويخلص مكيافيلي بعد ذلك إلى أنّ أمهر الكذَبة هم الذين يدوم حكمهم أطول من غيرهم، فالكذب حاجةٌ سياسية، هي حصة الثعلب في شخصية الحاكم. والتي يجب أن تتوازن مع حصة الأسد. بين الحيوانَين: الأسد الشجاع الصادق والثعلب الحذر المحتال. يحتاج أن يكون ثعلباً "ليتعرّف على الفخاخ"، وأن يبقى، في الآن نفسه، أسداً "ليخيف الذئاب". وفي حال لم ينَلْ الحاكم محاكمةً عادلة أمام هيئة وقاضٍ، وفي قاعة مفتوحة، فعلى الشعب أن ينظر إلى ما يسميها مكيافيلي "النتيجة": إذا نجح الحاكم بالحفاظ على نفسه وعلى دولته، فإنّ كلّ الوسائل التي استخدمها، ومنها الكذب، تصبح مشرّفة وشرعية.

بعد مكيافلي ورؤيته "الوصفية" للكذب بالسياسي، حلّ العصر الديمقراطي، الذي يهدف إلى حماية الصدق السياسي بواسطة الانتخابات. بعد ماكيافلي، بقي السياسيون يكذبون طبعاً. يطرحون برامج مغرية، ينفذّون بعضها أو لا ينفذون شيئاً. لكنّهم في دورات الانتخابات الثابتة، يحاسَبون على كذباتهم. تُفكّك الكذبة، يدَقَّق بكلّ واحدة. يأتون بمن يرون أنّه الأصدق. يكذب عليهم هذا الأخير، قليلاً أو كثيراً، فيعيدون الكرّة .. حتى صارت البلدان الديمقراطية تتميز، ليس بالصدق الصافي، إنّما بالكذب النسبي. جديد ابتكاراته منصّة إلكترونية كانت تنشر يوميات لأكاذيب الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، وأحصت منها عشرات الآلاف، ومع ذلك بقي جمهوره "وفياً" له. هذا يعني أنّ الجمهور انتكس ديمقراطياً. لم يعد الكذب يقف بينه وبين زعيمه. لا يحاسبه، إنّما يشجّعه، يعيش بكذبته، ينتعش بها. وهذا ضعفٌ طرأ على الديمقراطية الأميركية، وبدأ يتسرّب إلى الديمقراطيات الأوروبية، أو بالأحرى تسرّب .. خلاص.

مع ذلك، للديمقراطية فضيلة تتمتع بها دون سواها من الأنظمة. تجد أصواتاً من داخلها قادرةً على فضح أكاذيب قادتها، فيما أنظمة الإستبداد الزاحفة على أنحاء الكرة، والآخذة بثأرها من الهيمنات الديمقراطية السابقة، فالأسرار شيمة حكامها. ومعها الكتْمان والإخراس والرمي في السجن والإخفاء والنفي والتعذيب، وأحياناً القتل... هي الأقدار التي تنتظر من يكذِّب أولئك الحكام.

كذَبَة محترفون، في الصغيرة والكبيرة. يحيكون أنسجةً من الكذب، سجّادًا من الخيوط الخفية والبائنة، ومن أسرار محفوظة في أرشيف مسروق

لن تجد بين حكام لبنان من يلبّي "شروط" مكيافلي، أو من يسير على خطى الديمقراطيات المعاصرة، فالحاكم، أو المتحكِّم لم يحافظ على شيء. لا على نفسه، ولا على الدولة التي اؤتمن عليها. تجاوز خيال مكيافلي، وخسر بذلك "شرعية" كذبه. وباتَ عارياً تماماً. ليس في وسعه التدثر بمعطف "إنجازاته" إلّا بمزيد ومزيد من الكذب. أما الشروط الديمقراطية فأصعب. ولا مرة أُحيل زعيم إلى محاسبة "جمهوره" على إخلاله بوعوده. كذْبة الأربع والعشرين ساعة كهرباء على أربع وعشرين تُكافأ بميزانية خاصة، وكأنّها هي المشروع الوطني. كذْبة تحرير القدس تنضوي تحت العنوان نفسه، مثلها كذبة السيادة والاستقلال التي تصاعدت، أخيراً، بوجه كذبة تحرير القدس .. وحول هذه الرقصات تدور المناورات. وألمعها أنّ كذاباً يوجّه إلى كذاب آخر تهمة الكذب. جمهورية صارت أرض خراب، ملحها الكذب، لتتحول المطالبة بالصدق، بالكشف عن الأكاذيب، بالمحاسبة عليها، قبل الانتخابات إلى حق أساسي من حقوق المواطن. تصوَّر ورشةً لمجموعة معارِضة، ثورية، مدنية .. تخوض الانتخابات المقبلة، عنوانها تفنيد الأكاذيب التي قرّرت مصيره الكارثي.

أليس الصدق من صفات المواطن الصالح؟ أليست هذه صفة محمودة لدى أي إنسان؟ ولو بدرجات؟ إذا كان الجواب نعم، فكيف يكون مطلوباً منه، في هذه الحالة، أن يصدُق، وأن يبتلع كذبة زعيمه؟ ألن يرى في ذلك طريقاً له مفروشاً بالكذب؟ إذا كان من واجب المواطن أن يكون صادقاً، فمن حقه أيضاً أن يعرف حقيقة كذبْة زعيمه. أن يحاسبه عليها. إنّه حقه بالمعرفة، لأنّ الكذب تجهيل، وليس فقط استصغاراً للعقول واحتقاراً لها.