الكتابة قارب نجاة من بحر الكآبة

14 ديسمبر 2021

(فرانسيس بيكابيا)

+ الخط -

يمكن وصف هذا المقال بأنه نخبوي إلى حد ما، وذاتي جداً، لا يفتح شهية القرّاء ولا يشجع على المتابعة، فموضوعه لا يعالج شأناً عاماً، ولا يخصّ أكثرية من يخاطبهم كتّاب الأعمدة والمقالات في الصحافة اليومية، هؤلاء الذين تتزاحم على حيّز اهتماماتهم مسائل وقضايا لا حصر لها، يحارون دائماً في المفاضلة بينها، وفي منح الأولوية لأيٍّ منها، ليس لاعتباراتهم الخاصة فقط، بل أيضاً لاعتبارات عشرات آلاف المتلقين الذين يستأنسون في العادة بأفكار كتّابهم الجادّين، وينتظرون منهم إبداء وجهة نظر ما، إزاء أكثر الأحداث استقطاباً لانشغالات الرأي العام، خصوصاً حيال الوقائع الساخنة، الملتبسة على الفهم بين الناس.
ولكن ما حيلة الكاتب، إذا فقد الشهية للانخراط في النقاش العام ذات يوم كئيب، وامتلأت نفسُه المرهفة، لسبب ما، بشيء مثل برادة الحديد الصدئة، ومال إلى البيات يوماً أو أكثر، فيما الصحافة لا تعرف التثاؤب، ولا تنتظر ماكينتها اعتدال مزاج كاتبٍ من هنا، أو صفو نفس مراسل صحافي من هناك؟ ثم ماذا عن الاستحقاق المهني والالتزام الأدبي حيال جمهور القرّاء، فضلاً عن العقد المبرم مع الناشر، حيث المسؤولية تقتضي المواظبة والانتظام، وتفترض الوفاء بالواجبات في مواقيتها المحدّدة سلفاً، ولا استثناء من التعهد المقطوع إلا في حالات المرض، أو غير ذلك من الظروف القاهرة التي يمكن بها حصراً تبرير الغياب.
وعليه، قد تكون هذه الإطلالة موضع اهتمام من المشتغلين بحرفة الكلام، دون غيرهم، أي ممن يتفهمون عذاب الضمير واختلاجات الوجدان، يعرفون ما يعتور النفس المثقلة بالهموم والآلام والآمال من اضطرابٍ مباغت، وما يقلّبها على الجمر ذات اليمين وذات الشمال، خصوصاً أن هؤلاء الكتاب والكاتبات الذين لا هم لهم إلا ما يهم الناس، ولا مسوّغ لمغامراتهم الإبداعية سوى الإبداع، يدركون أن الانقطاع بعلة الاكتئاب المباغت، والنزعة الى الاحتجاب المؤقت، أو حتى الرغبة في التواري عن الأنظار هكذا، يعادل الموت المعنوي لديهم، أو يوازي الانقطاع عن الحياة، بالمعنى الحقيقي لحياة من يفهمون أن الخلق والأمل والخيال من شروط الوجود الفعّال.
وكما هو حال الصانع والفنان والفيلسوف، وغيرهم من ذوي التخصّصات، كذلك حال الكاتب في سعيه الدائب للتجويد والإتقان، في مهنةٍ تغصّ بالشقاء وتفيض بمتعة الإنجاز، وهذه هي الجائزة الكبرى، وهذا هو مبرّر وجوده، ورافعة حضوره الاجتماعي، ومصدر اعتزازه بنفسه، الأمر الذي يجعل من هوسه بالكلمة أشبه ما يكون بأخذ المنشطات، وتناول الأطعمة المكملة، ولا سيما أن لدى الكاتب ما ليس لدى غيره، من ملكةٍ تعينه على التعبير عن ذاته، وطرح أفكاره في الفضاء العام، وفوق ذلك لديه منبر متاح، يطلّ منه بانتظام على جمهرةٍ من القرّاء، ممن صارت بينه وبينهم ألفة ومودّة وصلة من نوع ما.
وبهذا المعنى، تصبح الكتابة، حتى في حالة الضجر والاختناق لأمرٍ يصعب شرحه، مثل ركوب زورق للنجاة من الغرق في بحر الكآبة، أو كمصلٍ مضادٍّ لليأس والإحباط، وحافز للبقاء على قيد الحياة، وذلك حين تهبط المعنويات من دون سابق إنذار، أو عندما تعتري النفس، على حين غرّة، موجة مفاجئة من الرغبة الغامضة في أخذ استراحة مؤقتة، أو قسط من النعاس. وبالتالي، إن الاحتجاب أو الانقطاع غير المفهوم لدى العامّة يغدو، والحالة هذه، سبباً إضافياً للاكتئاب المضاعف، إن لم نقل إن الغياب هكذا يمسي شكلاً من أشكال العزوف عن تحمّل المسؤولية المهنية، أو ضرباً من ضروب الهروب المعيب، أو قل إدارة الظهر بخفة، وهو أمر لا يليق بالمحاربين الشجعان المنذورين للقتال حتى النفس الأخير.
ينطبق على المشتغلين بمهنة المتاعب (تسمّى حرفة الفقر أحياناً والسلطة الرابعة أخيراً) خصوصاً لمن يعشقونها حقاً، ويتبتلون في محرابها طوال الوقت، قول الشاعر: "لا يعرف الشوق إلا من يكابده/ ولا الصبابة إلا من يعانيها". ولما كانت الكتابة فيها شيء من العذاب الإنساني النبيل، وقدر طفيف من لذّة الألم الضئيل، فإنه يناسبها القول أيضاً: "لا تشكو للناس جرحاً أنت صاحبه/ لا يؤلم الجرح إلا من به جرح". وهذا هو بالتمام والكمال ما تنشده هذه المطالعة التي اجتهد مُنشئها في بسط لواعج فوق شخصية، يعتقد أنها لا تخصه وحده، حتى وإن كانت تخاطب فئة محدودة من الناس، ممن لا يعرفون مدى معاناة الكاتب الذي يُنفق جلّ نهاره لاختيار موضوع جدير بالتناول، فيما الكتابة ذاتها أسهل الأمور.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي