الكتابة فعل عفوية
هل الكتابة نتيجة التخطيط؟ أم أنها بنت العفوية؟ هل يلتزم الكاتب بما خطط له في أثناء ممارسة الكتابة؟ أم أن التخطيط مجرّد مقدمة للانغماس ببحر الكتاب اللجي، حيث يصعُب علينا بعد أن ننغمس الالتزام بما خطّطنا له، ونحن على الشاطئ؟
واضح من عنوان هذه المقالة أنني أميل غالبا إلى العفوية في الكتابة الإبداعية، وأنني من خلال تجاربي الكثيرة، أنداح غالبا في عفويتي، حتى وإن خطّطت مسبقا، وفقا لما تعلمناه في دروس كتابة التعبير الإنشائي. لكنني مع هذا أحاول دائما سبر غور الموضوع برصد مزيد من التجارب حولي، وكلما سنحت لي فرصة مراقبة سلوك كتّاب في أثناء الكتابة عاودني سؤال الموضوع، للبحث عن إجاباتٍ مختلفةٍ عن إجابتي المفضلة.
أرسل إلي كاتب زميلٌ مسودة مقالة صحافية، قال إنه كتبها بسرعة شديدة، ويريد رأيي فيها قبل إرسالها إلى الصحيفة التي ينشر فيها مقالاته دورياً. اعتاد زميلي، من باب احترامه فعل الكتابة، أن يأخذ آراء بعض من حوله ممن يثق بهم في ما يكتب، قبل أن يقدم على نشره، على الرغم من أنه كاتب محترف يكتب زوايا صحافية شبه يومية في أكثر من صحيفة، وأصدر عشرات الكتب في مجالات متعدّدة، معظمها قريب من موضوعات الإبداع والموهبة والكتابة. وقد احترمت دائما فيه هذا السلوك الذي يدلّ على تفانيه في الكتابة وشغفه في الإتقان، وحرصه على قرّائه وعمله على تجويد موهبته وتطويرها، رغم أنني عجزت عن تقليده فيه. فأنا أشعر بالنزق من الكتابة بعد أن أنتهي منها، وأجد نفسي أدفع مقالتي إلى النشر أحيانا حتى قبل مراجعتها مراجعة ذاتية وافية ومستحقة! ولولا مراجعة المحرّر الذي يستقبلها ويعدّها للنشر، لاكتشفت نتيجة خذلان أصابعي لي على لوحة المفاتيح أخطاء مطبعية كثيرة!
قرأت مقالة الزميل وشعرت أنها إحدى أجمل مقالاته على الإطلاق؛ سرد سلس وجمل قصيرة، ولغة ذكية وأمثلة جميلة ساهمت في بلورة موضع المقالة بشكل واف ومتكامل. عندما أخبرته بذلك، وهو يعلم تماما أننا نرفع حواجز المجاملات التقليدية كما اعتدنا حين نريد تقويم المقالات، قال لي؛ يبدو أن الكتابة فعل العفوية. قلت له؛ وهي كذلك. ولكن لماذا توصلت إلى هذه النتيجة في هذه اللحظة بالذات، وبعد هذه المقالة فقط؟ قال إن هذا المقالة، التي أعجبتك الآن أكثر من غيرها من مقالاتي في الأسابيع القليلة الماضية، كتبتها بسرعة شديدة وبلا تخطيط أو تفكير مسبق كما كنت أفعل في الغالب، فقد اكتشفت أن موعد تسليم مقالتي للصحيفة التي أنشرها فيها قد حان، وأنا في مكانٍ غير مناسب للكتابة، وفي خضم مهمة كنت أؤدّيها برفقة عائلتي. لكنني مع هذا وجدت دقائق قليلة انزويت فيها بصحبة جهاز الآيباد لأكتب ربما لأول مرة من دون تفكير مسبق، ولا تخطيط بعناصر الموضوع الذي وجدتني أكتبه. وهذه هي النتيجة.. مقال جميل فعلا، بل إنه من مقالاتي القليلة التي أعجبتني، حتى قبل أن أسمع آراء أصدقائي وزملائي فيها. هذا يعني أن الكتابة بنت العفوية فعلا.
وقد أحالني كلام الزميل إلى فوضاي الخاصة بالكتابة، لكن لا بد من التأكيد على أنني أقصد هنا الكتابة الإبداعية، وليست الموضوعية البحثية على سبيل المثال، والتي تتطلّب شروطا تنظيمية واضحة وإعدادا مسبقا. أما العفوية التي أقصدها فهي تختلف تماما عن العشوائية التي غالبا ما تنجم عنها كتابات رديئة، ذلك أن العفوية في الكتابة المستمرّة هي نتيجة تراكم خبرات تبقي آثارها الخفية، حتى لو لم نلاحظها للوهلة الأولى. وهذا يفسّر لنا جانبا من جوانب الإبداع الأدبي الحر الذي يجد المبدع نفسه في خضمه اللجي من دون أن يخشى الغرق في النهاية.