القهر في أقصى أشكاله

21 يونيو 2021

(جمانة جمهوري)

+ الخط -

جاء في تقرير الطب الشرعي أنّ الكدمات غطّت 50% من جسد الضحية، وأنّ الجثة لا توجد عليها أية آثار غير الضرب المبرّح المفضي إلى الموت. علّل مدير المركز الوطني للطب الشرعي سبب الوفاة المباشر بنزيف داخلي تحت الجلد. والضحية المغدورة هنا طالبة جامعية في سنتها الأولى، لم يتجاوز عمرها 21 عاماً. أما القاتل فهو والدها، عديم الإنسانية والرحمة والضمير، وقد ساعده في فعلته الشنعاء شقيق الضحية الذي لا يقل إجراماً ووحشية عن أبيه. ظلا يضربانها بلا توقف، وتركاها تنزف حتى لفظت أنفاسها الأخيرة. حاول القاتل التهرّب من جريمته البشعة، محاولاً، في البداية، استغفال الأجهزة المختصة والرأي العام، بادعاء أنّ سبب وفاة ابنته، الصبية العشرينية، إصابتها بالجلطة. ثم حين اعترف بجريمته، برّرها بغضبه الشديد من رسوبها في أحد المساقات في الجامعة... ما يعني أنّ المسكين كان حريصاً جداً على تحصيلها العلمي، ما أجبره على إنهاء حياتها، غير قاصد كما زعم!
وجّه المدعي العام للأب الجاني تهمة القتل المقترن مع التعذيب الشرس. والمغدورة طالبة حصلت على منحة دراسية في كلية العلوم الإنسانية في جامعة أردنية خاصة. وبحسب صديقات مقرّبات، ظلت دائمة الشكوى من تعنيف والدها المستمر، وضغطه الشديد عليها بسبب علاماتها في الجامعة، وأكدن أنّها كانت تبذل أقصى جهودها في الدراسة... ولنفترض أنّها فشلت في مادّة ما، على الرغم من جهودها المبذولة. هذه ليست جريمةً تستدعي العقاب الشديد، بل تتطلب مساعدتها وتوفير جو دراسي آمن ومريح، خالٍ من الضغوط النفسية التي تعدّ السبب الأول في إخفاق الطالب في تحصيله العلمي. كما أكد جيرانٌ، يقطنون بالقرب من بيت الضحية، أنّهم كانوا يسمعون، باستمرار، صوت صراخها بسبب التعنيف، وأنّ بعضاً منهم حاول، يوم وقوع الجريمة، التدخل إنقاذاً لها من بطش والدها الذي كان يتذرّع بأنّ ما يحدث في بيته شأن عائلي، وليس لأحد الحق في التدخل.
عاشت الضحية في حالة قلق واضطراب، إلى أن حصل ما كانت تخشاه، فرسبت في أحد المساقات، وصارت مهدّدة بفقدان المنحة الدراسية، وجنّ جنون الأب القاتل باحتمالية ضياع فرصة المنحة، وبالتالي تحمّله مصاريف الجامعة، بسبب تقصير ابنته، فضربها بذلك الشكل الوحشي، بمساعدة الشقيق وتستّر العائلة. ادّعت الأم أنّ ابنتها وقعت من أعلى السلالم، ما أدّى إلى وفاتها.
... تفاصيل مروّعة مرعبة صاحبت الجريمة، ما أشعل غضب الشارع الأردني، وضجّت مواقع التواصل الاجتماعي في الأردن والعالم العربي بالأصوات المستنكرة المندّدة بالجريمة التي دانت الفاعل، وقد تجرّد من مشاعر الأبوة التي تقتضي العطف والرحمة والدعم النفسي لصغيرته التي قتلها بدم بارد. كما بثّ على نطاق واسع تسجيلٌ لصوت الضحية في إحدى المحاضرات، وهي تقدم الشكر، بكل دماثة وأدب، إلى أستاذة جامعية أثنت عليها، وأشادت باجتهادها ومواظبتها على الدراسة. وهو ما أجج حالة الغضب والرفض والاستنكار لهذه الجريمة النكراء البشعة التي هزّت الشارع الأردني، ودفعت نشطاء إلى المطالبة بإيقاع أشد عقوبة ممكنة بحق الجاني وأعوانه.
وكما جرت العادة في جرائم مشابهة، باتت مألوفة في مجتمعاتنا المتخلفة، سوف تُسقط الأم، باعتبارها صاحبة الحق الشخصي، بكلّ رأفة وحنان، وحرصاً على التماسك الأسري (!) حقّها بالادّعاء الشخصي، ما سيكون من شأنه تخفيف العقوبة إلى حدّها الأدنى، ليُخرج الأب السفاح، وابنه الشريك الآثم، حرّين بعد سنوات قليلة، بموجب نصوصٍ قانونيةٍ مجحفة، وسوف يمارسان حياتهما بشكل طبيعي، يأكلان ويشربان ويعملان، وقد ضاع حق الضحية إلى الأبد، غير أنّ دمها النديّ الطاهر المهدور سيظلّ، ومهما طال الزمن بهم، ينهمر سخياً من أيديهم، شاهداً على القهر في أقصى أشكاله.
سلاماً لروحكِ البريئة المنهوبة، أيّتها الشهيدة التي أوجعت القلوب، وكلّ الخزي والعار والمذلّة للسفاح، عديم الإنسانية، ميّت الذمة والضمير.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.