القمم العربية والمصطلحات المفارقة للواقع
غالباً ما تُصاغ جُمَلٌ أو مفرداتٌ من السلطة النافذة، التي بيدها مقاليد الحكم وإدارة الدولة والمجتمع، تُحمّلها ما تريد من معانٍ تتشكّل مصطلحاتٍ ومفاهيمَ تدخل الوعي الجمعي وتستقرّ فيه، وغالباً ما يكون الإعلام الأداة الأكثر فعّالية، ثمّ تصبح هذه المفاهيم والمُصطلحات، خاصّة لدى الأنظمة الشمولية، في مرتبةٍ من الرهبة والقداسة تكاد تضاهي الكُتب المُقدّسة أو الأحاديث الشريفة أو الأقوال والحكم المأثورة، تُكرّر من دون وعي أو تفكير، بل مُجرّد التفكير فيها يعدّ خيانة، في بعض الأحيان، للانتماء والوطنية. هكذا نشأت وترّبت أجيال في منطقتنا العربية.
بمناسبة انعقاد جلسات مؤتمر القمّة العربية الـ 33 في البحرين، التي صدر عنها بيانٌ ختامي في 16 من مايو/ أيار الحالي، تحضر إلى الوعي بعض هذه المفاهيم، منها على سبيل المثال "الصراع العربي الإسرائيلي"، هذا المصطلح الذي أكل من أكبادنا وأعمارنا فيما مضي، منذ قيام إسرائيل دولةً محتلةً. حظي هذا الصراع سابقاً بما يُغذّيه ويؤجّجه ويمنحه معنى خاصّاً، في مرحلة احتدام الفكرة القومية والهُويّة القومية، وبروز الصهيونية حركةً مغاليةً في قوميتها "الخاصة"، بالإضافة إلى القومية العربية. هذه المرحلة التي شهدت، على الأقلّ، حربيْن كبيرتيْن بين إسرائيل والدول العربية منذ النكبة، ازدهرت فيها الخطابات القومية وتأجيج المشاعر والحشد العاطفي، من أجل "المعركة المفتوحة" مع هذا الكيان الغاصب، وصارت قضية الصراع العربي الإسرائيلي أمّ القضايا، وبوصلة الاتجاه نحو مركز القومية العربية، في وقت كانت معظم الدول العربية قد حصلت على استقلالها على التوالي، ولم تستطع الشعارات والأماني والخطابات، والوعود بغد مشرق قائم على أعمدة النهضة من تحقيق جزء يسير من تطلعات الشعوب العربية، بعد ابتلاء معظمها بأنظمة عسكرية أو ديكتاتورية، أجهضت حلم النهضة، ودفعت المجتمعات إلى حالة من الركود، تاركةً إياها تواجه أفقها المسدود، مرتمية في أحضان أيّ فكر يمنحها الملاذ والأمان.
لم تتمكن الشعارات والأماني والخطابات، والوعود بغد مشرق قائم على أعمدة النهضة من تحقيق جزء يسير من تطلعات الشعوب العربية
آلت تلك الحروب القائمة على هذا الصراع اتفاقاتِ وقف إطلاق نار بعد حرب أكتوبر (1973). تلتها اتفاقات سلامٍ بين إسرائيل ومصر في عام 1979، مما أدى إلى انسحاب إسرائيل من شبه جزيرة سيناء، وإلغاء نظام الحكم العسكري في الضفّة الغربية وقطاع غزّة، لصالح الإدارة المدنية الإسرائيلية، وبقي الجولان مُحتلّاً من إسرائيل، وبقيت مشكلة القدس الشرقية، المُعترف بها عاصمة للدولة الفلسطينية، عالقة بين ضرورتها مطلباً للفلسطينيين وحقيقة كونها مطمعاً لإسرائيل، تتمادى وتمتدّ إليها، ولم تكفّ عن بناء المستوطنات وتهجير الفلسطينيين. وتتابعت القمم العربية بعد تأسيس جامعة الدول العربية، منذ أولاها في 1946، حتّى أصبحت 33 مؤتمر قمّة، ولم تغب القضية الفلسطينية عن إحداها، قضيةً مركزيةً، كانت الدول المُلتئمة في هذه المؤتمرات تدين وتشجب وتستنكر وتدرج التوصيات في بياناتها الختامية، من دون أن يؤثّر ذلك في الواقع على الأرض.
أنشئ مصطلحان، منذ النكبة، توزّعت الدول العربية بينهما، دول المواجهة ودول الممانعة، مصطلحان حملا بدايةً معنى التقسيم الجغرافي، إنّما بقيت الخطابات تصبّ في خانة مناهضة الاحتلال الإسرائيلي وقضية فلسطين، قضيةً تخصّ العرب مجتمعين. لكن بعد اتفاقية السلام، التي أبرمها الرئيس المصري الراحل أنور السادات مع إسرائيل في 1979، برزت الخلافات التي كانت مطمورة تحت رماد الحروب السابقة، وتوسّعت دائرة الاختلاف في الفهم والتوجّه، وراحت الشعوب العربية ترزح تحت أنظمة سياسية وعقائدية أو أيديولوجية متباينة، تعقد تحالفاتها مع قوى خارجية هي في الأساس متصارعة، وراح الإسلام السياسي يكبر، وتزداد قاعدته الشعبية في غالبية المنطقة العربية، في مقابل الأنظمة العسكرية أو التي ادّعت الاشتراكية والعلمانية، وغيرها، ولم يجتمع العرب على هدف واحد، بل صارت هناك تحالفات فيما بين الدول العربية، بحسب توجهها السياسي ومصالحها وسياساتها الخارجية، ولم تستطع الأنظمة تشكيل "جبهة" واحدة يجتمع العرب فيها مقابل قضية تعدّ الأولى بالنسبة إليهم جميعاً، كذلك، لم تكن هناك دولة واحدة يمكن أن تضطلع بدور القيادة أو القطب الذي يجمع حوله بقية الأقطاب في المنطقة العربية، إلى أن أصبحت القضية الفلسطينية قضيةً خلافيةً بين الأنظمة العربية، وهذا ما بات جلياً اليوم.
الخلافات بين الدول العربية أكبر من عوامل الاجتماع حول القضايا المشتركة، وحول الأولويات
ماذا بقي من التقسيمات السابقة؟ إنّ مصطلح المواجهة مع إسرائيل قد زال تقريباً من الوجود، فالأطروحات تتغيّر بتغير الحال والزمان، بالإضافة إلى تغير مدى وشكل القضية الفلسطينية. أما دول الممانعة، فلم يبقَ منها في حالة عداء "معلن" في الخطابات السياسية غير مفعّل في الواقع، إلّا سورية الغارقة في أزماتها الصعبة، وفي حالة هدنة غير معلنة مع إسرائيل، بالإضافة إلى ضعف مواقفها السياسية بعد التدخّلات الخارجية الكثيرة فيها، منذ الانتفاضة الشعبية، ولبنان، الذي له وضع خاص بسيطرة إيران فيه على طريقة إدارة الصراع مع إسرائيل.
بالنظر إلى واقع الدول العربية، اليوم، يصبح البناء على قرارات ومُخرجات مُؤتمرات القمّة أكثر ما يشبه البناء في الهواء أو في الرمل، يمكن للإنسان أن يبني صروحاً، لكنّها لا تعدو أن تكون أكثر من منحوتات تفتقر حتّى القيمة الجمالية والإبداع، فكيف بالأسس الوهمية! خاصّة عند الاستماع إلى كلمات رؤساء الوفود أو الزعماء، فكلّ دولة من دول الممانعة، وجبهة "الصمود والتصدي"، لديها ما يفيض عنها من أسباب البؤس والحاجة إلى الدعم كي تستطيع النهوض، وغيرها من الدول العربية الغارقة بمشاكلها وحروبها أيضاً، عدا الخلاف حول الجهة الأكثر عداء للدول العربية، فبعضها يعدّ إيران هي الأكثر أهمّية في العداء، وبعضها يراها إسرائيل، أقله نظرياً وشعاراتياً، لذلك نسمع البكائيات جنباً إلى جنب مع الخطابات المدجّجة بالأيديولوجيا أو العقيدة.
صار المطلوب أن تقوم المنطقة على أسّس دينية تستبطن بذور الصراع البيني، وبذور الصراع مع إسرائيل، على أساس ديني
لم يعد الصراع في جوهره قومياً، بل حتّى القومية العربية صارت من الماضي، فهذا تجاوزته المرحلة العربية، صار المطلوب من المنطقة، منطقة الشرق الأوسط، أن تقوم على أسس دينية تستبطن بذور الصراع البيني داخل الدول، وبذور الصراع مع إسرائيل، على أساس ديني، خصوصاً أنّ إسرائيل دولة قامت منذ إعلانها على مبدأ قومي ديني، في اختراقٍ لكلّ النظريات الاجتماعية والفلسفية والقوانين الدولية وتعريف الدول، بالتوازي مع تحوّل طبيعة الصراع على مرّ السنوات، من الصراع العربي الإسرائيلي الإقليمي، الواسع النطاق، إلى صراع فلسطيني إسرائيلي محلّي أكثر، الذي بلغ ذروته خلال حرب لبنان 1982.
الخلافات بين الدول العربية أكبر من عوامل الاجتماع حول القضايا المشتركة، وحول الأولويات، كذلك، لم تعد المصطلحات التي سادت خلال العقود الماضية تحمل المعاني التي يمكن أن تؤجّج المشاعر العربية، لقد تجاوزتها الشعوب، بل صارت بالنسبة إليها ممجوجة، لا تغنيها من جوع، إلى حياة تصبو إليها أمام واقعها المأزوم. وصارت مؤتمرات القمّة أقلّ ما يشغل الشعوب العربية، كما صارت جامعة الدول العربية غير موثوق فيها ولا بقراراتها، بل صارت مصطلحاً مثيراً للتندّر، وللكوميديا السوداء، التي برعت الشعوب العربية فيها. حتّى المصطلحات التي ما برحت تتكرّر في كلّ مؤتمر قمّة، لم تعد تحظى بآذان صاغية، بل هي تشبه أكثر "كليشيهات" جاهزة، كالتأكيد على "العمل العربي المشترك"، وكـ "تعزيز التعاون العربي" لمواجهة كافة "التحدّيات"، التي تهدّد الوطن العربي وأمنه واستقراره.
باتت ما سبق من مصطلحات في حاجة إلى استبدالها بأخرى تعكس الواقع، الذي لم يعد بالإمكان تعمية بصائر الشعوب عنه، في هذا العصر المفتوح للجميع.