القدس .. السياسة المشتبِكة في أبهى صورها

25 ابريل 2021
+ الخط -

ما نشهده اليوم في القدس المحتلة هو فعل اشتباكي شعبي، وردّة فعل طبيعية على الظلم والاضطهاد، والذي يمكن تأطيره في نظريات السياسة المُشتبِكة والحراك الاجتماعي، إذ تشير حلقات الاشتباك الجارية مع المحتل الإسرائيلي إلى أنّ الشعب ملّ الشعارات الفارغة والقيادات المهترئة والبرامج الهزيلة، وقرّر أن يتصدى للأمر بنفسه في ظلّ عجز المنظومة الرسمية والقيادة التقليدية عن فعل ذلك. لكنّ حلقات الاشتباك هذه لا يمكنها الاستمرار والاستدامة، من دون مدعّمات مؤسساتية وشعبية، ومن دون حاضنة مجتمعية تتعدّى الجغرافيا ومحدّداتها. أهميتها القصوى تكمن في فعل الرفض والإصرار والتضحية والمقاومة.

تمثل القدس اليوم وحراكها الشعبي، كما كانت عليه الحال في هبّتي أكتوبر/ تشرين الأول 2015 ويوليو/ تموز 2017، السياسة المشتبكة في أبهى صورها، فهذه الحراكات، كما حاججتُ سابقاً، تقوم على توحيد جهود الفاعلين الُمشتَبِكين الذين يتّحدون ويجادلون السلطات والنخب وادّعاءاتهم التمثيلية، غير أنّه من أجل التحوّل من حالة الغضب الُمشتَبِكَة إلى حالة حراك اجتماعي، ممثل للمجتمع الفلسطيني ككلّ "كمجتمع حراك اجتماعي" فإنّ المطلوب هو البناء على الشبكات الاجتماعية الموجودة وغيرها، لتوحيد الأهداف الجمعية، بجهد اشتباكي يبني على ثقافة التحرّر من الاستعمار، ويؤسّس على ضرورة تحدّي السلطات القمعية والنخب المستبدة. وعليه، يدرك المقدسيون ذلك جيداً، ويدركون أيضاً أن تحوّل موجة الغضب الحالية إلى حالة اشتباك دائمة مع المستعمِر تجعل المستعمَر أقرب إلى الحرية والانعتاق وتقرير المصير.

هناك ضرورة لتوفر أربعة أركان: العمق الشعبي، والاستمرارية، والهدف والبرنامج، والقيادة

ومن أجل المساهمة في تحقيق هذه الغاية، وكما حاجَج المحلل السياسي، هاني المصري، إبّان هبة يوليو 2017، هناك ضرورة لتوفر أربعة أركان: العمق الشعبي، والاستمرارية، والهدف والبرنامج، والقيادة. أركان الانتفاض هذه تتوفر بصورة جزئية فقط في موجة الانتفاضة المقدسية اليوم، لأنّ التفتت الجغرافي يحصر أثر العمق الشعبي، وخزّان الإصرار والإرادة سينضب من دون تجديد متعدّد الأوجه، كما أنّ مرحلة تطوير الهدف والبرنامج ما زالت قيد البلورة، والطريق ليس سهلاً، وإن كان طبعاً ممكناً ومطلوباً، من أجل الانتقال من الحلول والمطالب الآنية إلى المطالب بعيدة المدى، ومن مرحلة المطالب المفروضة إلى المطالب المرغوبة. أما "فراغ" القيادة، فيشكّل التحدّي الأكبر في ظلّ ديناميات القوة والسيادة والسيطرة السائدة، لكنّ المهم في خضّم هذه المعركة ملء دفة القيادة بقيادة شرعية وممثلة وفاعلة، تحدّد توجهات النظام السياسي واتجاهاته لما بعد القدس.

لا يشكل هذا الحال مدعاة للإحباط؛ فبموجب تعريف السياسية المشتبكة يمكن أن يكون الفعل الجماعي موجزاً أو مستداماً، مُمأسساً أو جامحاً، روتينياً أو دراماتيكياً. لكنّ هذا الفعل الجماعي يتطوّر ليصبح فعلاً مشتبكاً عندما يُوظفه الناس غير القادرين على الوصول إلى المؤسسات التمثيلية أو غير الممثلين بها، من أجل نزع الوكالة السياسية بأيديهم وحناجرهم وفعلهم، وعندما يتحدّون أيضاً السلطات القمعية والنخب السياسية والاقتصادية والدينية والمجتمعية والقيادات السياسية التقليدية، وتحدّي رؤياهم ومصالحهم الضيقة. هنا بيت القصيد، ومن هنا تستمر حلقات الاشتباك، وتتحول فعلاً مستديماً لإحراز الحقوق وتلبية التطلعات. ولا يجب بأي حال استعجال الاحتفاء بالانتصار، فالمعركة طويلة جداً، والاحتفاء الحقيقي يتطلب حماية الإنجازات من المتصيدين المنهزمين، والاستمرار في حلقات الاشتباك الشعبي، فالمبالغة في الاشتباك، لا الاحتفال، هي مفتاح الانتصار.

يدرك المقدسيون أن تحوّل موجة الغضب الحالية إلى حالة اشتباك دائمة مع المستعمِر تجعل المستعمَر أقرب إلى الحرية

تشكل صحوة القدس هذه مدخلاً جديداً آخر، وفرصة مواتية لوقف الدوران في حلقات الاضطهاد، والمضي في حالة اشتباكية تنتقل من الشارع وأزقة الحارات إلى أروقة العمل السياسي الرسمية والحزبية والتمثيلية، ومنها إلى جميع مناحي الحياة الفلسطينية، ليشكّل الاشتباك الشعبي نهجاً للحياة في ظلّ الاضطهاد. الصمود كاستراتيجية دفاعية هو فعل غاية في الأهمية، إلا أنّ المقاومة والاشتباك، بالمعنى الشامل والواسع، مع المستعمِر وأساليب وأدوات استعماره، يشكلان الفعل الواجب المكمّل من أجل الانعتاق. وهذا الفعل الواجب هو المحرّك الحقيقي لميزان القوى، والمعيار والضابط اللذان يُضطران الجميع، برغبتهم أو عدمها، إلى أخذه في الحسبان، فإن أُهمِل الناس على الدوام في فترات الدوران في حلقات الاضطهاد، فلا يمكن أن يُهمَلوا في فترات الدوران في حلقات الاشتباك بعمقها الشعبي الوحدوي. وهذه الملاحظة أثبتتها القرائن والدلائل من الحالة الفلسطينية نفسها، وما شابهها من مشاريع تحررية انعتاقية. إلّا أنّ هذا كله يتطلب حاضنة وبوتقة توحد الجهود، وتبني استراتيجيتها الوحدوية، كي تصنع التغيير لكل الفلسطينيين أينما كانوا، وهذا غير ممكن في ظلّ الأطر السياسية وأشكال الحوكمة وأساليب القيادة السائدة. لكنّ هذه المعطيات لا تجعل المهمة مستحيلة، بل تجعلها أكثر إلحاحاً. فالتاريخ والنظرية يؤشّران إلى أنّ استمرارية حلقات الاشتباك وديمومتها، والتبنّي المجتمعي لها، والانخراط في جهد جمعي من أجل إعادة تعريف المشروع الوطني الفلسطيني وخطابه وأهدافه وإعادة إنتاج النظام السياسي وأدواته ومؤسساته التمثيلية، ما هي إلّا خطوات تصويبية وتصحيحية طال انتظارها. وقد أعلن الجيل الجديد من الفلسطينيين جهوزيته للانخراط في هذه الورشة الإصلاحية في أكثر من مناسبة هادئة وهبة صاخبة. ولأسباب ذاتية وموضوعية، تذبذبت حدّة الإعلان بدرجة تذبذب الفعل وفترة استمراره، الأمر الذي لا يقلل من شأن الفعل أبداً، خصوصاً في ظلّ حالة القمع متعدّدة الطبقات، والتي تمارس على الفلسطينيين.

طبعاً، هذا الإعلان والتصريح أنّ الكيل طفح لا يكفي للانخراط في العملية التغييرية، إذ ثمّة متطلبات استباقية بحاجة إلى تأطير وانتباه، أهمها الحاضنة المؤسساتية، فالعملية التراكمية الآخذة في التبلور تؤسس لوعي جديد وفكر سياسي مختلف، يهدفان إلى معالجة تبعات تراكم الفشل والإحباط على مر العقدين الماضيين. كذلك، تفرز هذه العملية التراكمية قيادتها الميدانية والفكرية، وترسّخ المبادئ لفعل الصمود والمقاومة. لكن النقطة المفصلية والحرجة، والتي يمكنها تغيير قواعد اللعبة تتمثل في التبّني السياسي للمقاومة اليومية للفلسطينيين. عندها فقط ستبدأ الفجوة ما بين الشعب وقياداته بالاضمحلال، ويبدأ الفلسطينيون بناء قاعدة القوة الخاصة بهم (بعد عقود من الانهزام) ليواجهوا بها، وبوحدتها وصلابتها، المشروع الاستعماري الصهيوني والمشاريع الإقليمية للتسوية غير العادلة. المعادلة ليست خطية، واللعبة السياسية ليست ببساطة النظرية، ولسنا قريبين من بناء تلك القاعدة الوحدوية، إلاّ أنّ مراحل (وأوجه) الانتقال من مستوى إلى آخر تقتضي وضع الرؤى والتصورات والتجادل حولها، والسعي إلى بلورة سياسات وخطوات عملية وعينية وفكرية. وهذا ما يحصل، فعلاً وفكراً، وإن كان في مراحله الجنينية. هذه ليست محاولة للإنشاء أو التنظير أو التجريب، بل هي قراءة لمداخل يمكن أن توفر بعض الأمل في غمرة الألم الذي يحاصرنا.

F5CB8409-A449-4448-AD7A-98B3389AADB7
علاء الترتير

كاتب فلسطيني، مدير البرامج في شبكة السياسات الفلسطينية، وباحث في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف. عمل باحثاً ومدرّساً في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية والتي حصل منها على الدكتوراه.