القبر وكثرة التأويلات

23 نوفمبر 2023

(بول كلي)

+ الخط -

امرأة مسكينة وضعت أمامي كسرة خبز صغيرة كانت مرميّة على الأرض، على سبيل تعظيم نعمة الله وعدم رميها في الطرقات. بعد قليل تأمّلت الكسرة الصغيرة، فأدركت أن المرأة، من دون أن تدري، قد وضعت أمامي رزقي جاهزا.

المرأة دائما تضع أمام العيون بخفّة ألغازها وبعض أسرارها، وأحيانا رموزها، بيسر شديد، جمال التأويل لا يأتي إلا من حسن سلامة القلب وطيب النيّة، وهل اطمأن أيّ قلبٍ حيران على أي دلالةٍ لفك أي لغز أو أي حيرةٍ أمام رزق؟

واضح أن، وخصوصاً حينما نكبر في العمر، حكاية الموت تلك لا تكفي الإنسان، فيحاول أن يُغني رغائبه بكثرة التأويلات، حتى يصل إلى القبر سالما، أو إلى نعيمه، حتى يصل ويقف أمام ما يداريه القدر له هناك، بعد ما ينتهى ميعاد كل تأويل، فهل تعرف تلك العصافير كل هذه المفاتيح للرزق، كل تلك المفاتيح التي لا تمتلكها أبداً، ولا تتمكّن من حمل أثقالها أو أسرارها أو صناعتها ولو حتى في أحلامها ليلاً.

لماذا تكون القبور دائماً مجلبة للراحة، وخصوصاً بعد كثرة الصراعات والحروب من أجل المعادن النفيسة وعوائد مبيعات الأسلحة في الشاحنات؟ لماذا كلما أردتُ أن أرسم سفينة ما أرسمها، في كل مرّة، على هيئة قبرٍ بجناحين، فأبتسم تلك الابتسامة المرّة التي لم أرها أبداً وأعاود الرسم. وفي كل مرّةٍ، أجد القبر بجناحيْن مكسوريْن، وأحياناً أراها مثل عربة كارو أفلت منها حمارُها وبرطع إلى الزرع، ودائماً يكون هذا الزرع غيط تين شوكي، ويظلّ العربجي ينادي بأصوات ما على الحمار، ولكن الحمار يظلّ هناك داخل المزارع.

في كل مرّة أحاول أن أرسم سفينة أرى ذلك الحمار الذي فرّ من صاحبه. أما لو رسمت باخرة صغيرة، فغالباً أجدها مثل "قمين طوب أحمر" ويخرج منه الدخان... هل لأن الباخرة الصغيرة عمياء دائماً، ولا ترى سوى الماء والبحر، وقمين الطوب أرى حوله لمّة من الأنفار بجوار أكواب الشاي، أم لأن قمين الطوب متّسع الدلالات عكس السفن التي نراها هذه الأيام تحطّ على بلادنا، ونحن شبه حزانى نتفرّج فقط من بعيد على الحرب؟

هل الحرب هي معمولة أصلاً للقضاء على كل الدلالات سوى تغييب الآخر، تحت الأنقاض أو رميه في البحر كما قالوا، وهل الحربُ هي ذلك الكابوس المصنوع بحنكةٍ شديدة، وهل يتّسع القبر حقاً وتضيق السفن بركّابها وبأهلها وبأرزاقها حتى تتحوّل إلى قتال الناس بجوار نخيلهم وأبقارهم؟ فماذا فعل هؤلاء بدلالات الحضارة بعد ما صارت مفتوحة الفم على الخراب بعد حربيْن كبيرتين؟

واضح أننا مساكين، وجئنا هذا الكوكب بشكل خطأ. لماذا دائماً يدفع المساكين الثمن؟ وتظلّ الحضارة هناك مشغولة باستكمال بناء سفنها العملاقة، ونحن هناك نبنى قبور أطفالنا، ونبني، في الوقت نفسه، لملوكنا الأهرامات ونزرع القمح، هل لذلك يمشى معنا الموت طويلاً، ونتأمّل دلالات كسرة الخبز ونتعلق بالأحلام والرزق؟

هل النساء يعرفن فنّ العيش أكثر، ويعرفن دلالات النعمة أكثر، ويحزن للموت أكثر؟ لماذا اهتمّت المرأة المسكينة بكسرة الخبز هكذا، فوضعتها أمامي ومشَت؟ أحياناً يرمي الصباح لنا الأرزاق في شكل حلم، أو كلمة، أو إطلالةٍ من بعيد من وجه كنّا نسيناه، فتأتي التأويلات، ونعبر إلى ماضي السنوات البعيدة، فنجدها كما هي على حالها تماماً، وكما تركناها بروائحها وأشجارها ونخيلها وزعلها ويأسها وحظوظها وشمسها وقمرها، إلا القبر الذي يدارى عنّا دلالاته، ويتركنا هكذا بلا حيلة.

فجأةً ننساه، وفجأةً نراه، فجأةً يفتح لنا دلالاته على جنّة ونعيم ونار، وفجأة تطمس كل الدلالات، فلا نرى إلا بعض أوهامنا عنه أو تفسيراتنا.

نرتاح أحياناً، ونتعب كثيراً في هذه التفسيرات حتى نلاقيه، أو ندّعي أننا نلاقيه، وأحياناً نظنّ أننا سنكون سعداء بملاقاته، وأحياناً نخافه، ولكننا نفتح قوس الدلالات طويلاً، في شكل أبحاثٍ وكتبٍ ومراجع كي نرتاح من انتظاره أو نتغلّب على قسوة حكمته علينا، فيبتعد عنا في ساعات فرحنا. وبعد أن ينقشع الفرح ونصير أكبر عمراً، يبدأ في مصاحبتنا، وكل آنٍ يرمي لنا رمزاً أو تفسيراً أو كسرة من خبز، ككسرة تلك المرأة المسكينة في ذلك الصباح.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري