الفيل والقضيّة الفلسطينيّة
أبدأ بالمشهد الذي نقلته قناة "الجزيرة" من سجن في مصر، مساء يوم الأحد 3 أغسطس/ آب الجاري، فيه سجناء من جماعة الإخوان المسلمين يهتفون، من خلف القضبان، معلنين تضامنهم مع غزة. هذا المشهد، برأيي، ذو دلالات كثيرة، ومتناقضة، ومتشعبة.
ليس في نيتي، بالتأكيد، أن أستهين بنضال الشعب الفلسطيني، أو أن أقلّل من حجم القمع الإسرائيلي للشعب الفلسطيني الممتد من أواسط شهر أيار/ مايو 1948 وحتى تاريخ كتابة هذه المقالة، لكنني أتساءل:
- ماذا يعني هذا، الآن، بالنسبة لهؤلاء الإخوة المصريين الذين كانوا في ذروة الاستمتاع بنشوة السلطة، وبـ(الشرعية) المستمدّة من صناديق الاقتراع، وفجأةً جاء مَنْ ينقلب عليهم، ويودعهم السجن، تعسفياً، ويستصدر بحقهم أحكاماً ليس بالسجن المؤبد مع الأشغال الشاقة فحسب، بل بالإعدام؟
وعينا على هذه الحياة، نحن أبناء هذه الأمة العربية الممتدة أراضيها من المحيط إلى الخليج، ونحن نرى الحكام المستبدين والخطباء المفوّهين وهم يتضامنون مع فلسطين، ويغنّون لفلسطين، ويترنّمون باسم فلسطين، ويكتبون عن فلسطين، ويؤرخون لفلسطين، ويؤلفون المجلدات عن فلسطين، حتى إن طرفةً رُويت عن أحد طلاب الماجستير في التاريخ في جامعةٍ عربية، اختار لأطروحة التخرّج الخاصة به موضوعاً عن "الفيل"، فاستغرب الأستاذ المشرف، وقال له:
- يا ابني، أنت لا تستطيع أن تكتب عن تاريخ الفيل سوى بضع صفحات، فماذا ستفعل حتى يتجاوز حجمُ أطروحتك مئة صفحة على الأقل؟
فأجاب الطالب: بسيطة أستاذ، نضيف للأطروحة فصلاً بعنوان: "الفيل والقضية الفلسطينية"!
معروف أن النظام السوري ما يزال يشن، بالتعاون مع نظام وليّ الفقيه الإيراني، منذ أزْيَد من ثلاث سنوات، حربَ إبادة لا مثيل لها في التاريخ ضد الشعب السوري، وضد الفلسطينيين المقيمين في سورية، ويَسقط على يديه ويدي الميليشيات المتطرفة الموالية له، مئات القتلى وآلاف الجرحى. ومع ذلك، تزامن اجتماعٌ لمعارضين سياسيين سوريين في مدينة تركية، مع الحرب الشرسة التي تشنها إسرائيل على غزة من جهة، والحرب الرهيبة التي تشنها الدولة الإسلامية في العراق والشام، "داعش"، على أهل الرقة ودير الزور والموصل. وفي أثناء الاجتماع، دعا أحدُ هؤلاء المعارضين السوريين إلى وقفة تضامنية مع (أطفال ونساء) غزة والمسيحيين المُهَجَّرين من بيوتهم في "الموصل" و"الحسكة"!
هذا الاقتراح، على ما أزعمُ، يشير إلى وجود طريقة في خلط الأوراق عربية، أصيلة، نادرة. ويدلّ، دلالة قاطعة، على تَأَثُّرٍ واضحٍ لدى هؤلاء المعارضين بالنظام السوري الذي يثورون عليه ويعارضونه! فالخطيب السوري (النظامي)، حينما كان يعتلي المنبر، ويواجه الجماهير ذات الإرادة المسلوبة، لم يكن يسمح لأحد بمغادرة القاعة قبل أن يقرع مسامعنا بالصياح عن تصميمه، وتصميم قيادته الحكيمة، على تطهير الجولان، والقنيطرة، والضفة الغربية، ونهر الأردن، وقطاع غزة، والقدس، وسيناء، من رجس شُذّاذ الآفاق الصهاينة، ربيبة الاستعمار والإمبريالية العالمية، حتى إن سيدة، كما روي لنا، كانت تَحْضُرُ مهرجاناً خطابياً بعثياً، ومن فرط ما قال الخطيب: "سنطهّر"، فكّت "لفّة" وليدها الصغير، وقالت له:
- زكاة عافيتك يا رفيق، طَهِّر لنا هذا الولد بطريقك!
ما زال الثوار السوريون، اليوم، وللأسف الشديد، يمشون، من دون وعي منهم، على خطى الإعلام السوري الذي يقوم، برمته، على التهويل، والابتعاد عن تسمية الأشياء بمسمياتها، بغية استدرار عطف الرأي العام.
أذكر، استطراداً، أن الأديب السوري الراحل، ممدوح عدوان، استنكر، مرة، نقل التلفزيون العربي السوري لقاءات مع سيدات استشهد أبناؤهن، والمذيع الذي يقابلهم يسعى جاهداً ليُظهرهن مسرورات، يكدن يطرنَ من الفرح بفقدهم! مع أن الوضع الطبيعي أن تبكي الأم ولَدها بحرقة، ولو كانت متأكدة من أنه، باستشهاده، سيخلد في الجنة.
ضمن سياق هذا المنطق، يمكننا أن نوجه سؤالاً جدياً لهؤلاء السادة الثوار:
لماذا تشيرون في حربكم الإعلامية ضد العَدُوَّيْن، النظام السوري وإسرائيل، إلى إقدامهما على قتل الأطفال والنساء فقط؟ هل يعني هذا أن أياً من هذين العدوين لو اقتصر على قتل الرجال، لكان عمله مقبولاً ولا يحتاج إلى استنكار؟!
لا شك في أن قتل الإسرائيليين الصهاينة الرجال والنساء والشيوخ والأطفال الفلسطينيين عمل شنيع، ولا يمكن قبوله، ولا يجوز السكوت عنه. ولكنه لا يمكن أن يوضع في سلة واحدة (أو: في وقفة تضامنية واحدة) مع تهجير المسيحيين من منطقة الجزيرة السورية. فمثل هذا العمل الخسيس حينما يصدر عن دولة غازية، مغتصِبة، كإسرائيل، يبدو طبيعياً، ومتوقَّعَاً، ولكن، أن نقوم، نحن المحسوبين على الثورة ضد الظلم والاستبداد، بتهجير أهلنا الذين نعيش معهم منذ خمسة عشر قرناً، من دون أي سبب أو مسوّغ أو مبرر، فهذه اسمها قمة (الحقارة التاريخية) التي سيندى لها جبين الإنسانية جمعاء!
الرحمة لروح معلمنا الأديب الفلسطيني الكبير الساخر، إميل حبيبي (1921 ـ 1996)، فقد كان يقول لنا، بين حين وآخر:
- آخ لو أنكم تتركوننا نحن الفلسطينيين بحالنا.