الفلسطيني وفرية إضاعة الفرص

11 يونيو 2021

(نبيل عناني)

+ الخط -

طالما أتُهم الفلسطيني بعدم إضاعة أي فرصة لإضاعة الفرص. وطالما جُوبه بمثل هذه المقولة القاسية، كلما عُرضت عليه حلول منقوصة أو عرجاء، وتردّد في قبولها أو سارع إلى رفضها. اتهم بدايةً باضاعة الفرصة عندما رفض قرار التقسيم رقم 181 الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، والقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية، بموافقة 23 دولة ورفض 13، وامتناع عشر دول عن التصويت. ثم اتهم بإضاعة فرصة الالتحاق بركوب قطار "كامب ديفيد" مع أنور السادات ومناحيم بيغن في 1979. وتوالت الاتهامات للفلسطيني، مدمن إضاعة الفرص، باتهامه بإضاعة عرض إيهود باراك السخي خلال مفاوضات كامب ديفيد مع ياسر عرفات في العام 2000. وأخيراً وُجهت أصابع الاتهام للفلسطيني بعد رفضه صفقة القرن التي تكرّم بها الرئيس الأميركي المنصرف، دونالد ترامب، وصفق لها عربٌ كثيرون.

تُبرهن مجريات الأحداث صوابية الرفض الفلسطيني كل مشاريع التسوية، أو التصفية، التي عُرضت عليه منذ ما قبل نكبة 1948. ويكفي الاستدلال بمناسبتين، قَبِل بهما الفلسطيني ما عُرض عليه، ثم لم يجن سوى الريح. الأولى قبوله بالجلوس إلى طاولة مؤتمر مدريد للسلام في 1991، وما تبع ذلك من تورّط في مفاوضات ماراثونية بدأت في أوسلو. لم يفض قبول الفلسطيني بهذا المسار إلا لإجهاض الانتفاضة الفلسطينية الأولى والإجهاز على مكتسباتها، وفي المقابل سوّق الإسرائيلي للعالم أكذوبة مفاوضات السلام التي لم تكن إلا غطاءً لشرعنة الاحتلال. وفي المناسبة الثانية، قَبِل الفلسطيني، في اجتماع القمة العربية في بيروت العام 2002، المبادرة العربية القائمة على الأرض مقابل السلام، وتبنّي خيار السلام العادل، والانسحاب الكامل من الأراضي العربية المحتلة، بما في ذلك الجولان السوري حتى خط الرابع من يونيو/ حزيران 1967، والأراضي التي ما زالت محتلة في جنوب لبنان، مع التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين وفقا لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194، وقبول قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ الرابع من يونيو/ حزيران في الضفة الغربية وقطاع غزة، عاصمتها القدس الشرقية. في المقابل، تعتبر الدول العربية النزاع العربي الإسرائيلي منتهيا، والدخول في اتفاقية سلام مع إسرائيل وإنشاء علاقات طبيعية معها في إطار السلام الشامل.

قَبِل الفلسطينيون المبادرة باعتبارها خيار العرب الإستراتيجي، وقَبِلها العرب باعتبارها مقبولة فلسطينياً، وهم، أي العرب، لن يقبلوا إلا بما يقبله الفلسطينيون، ولن يطالبوا بأكثر مما يرضي الفلسطينيين. وظلت مبادرة العرب تلك منذ ذلك الوقت سقفهم الذي قبل به الفلسطينيون، بعدما خابت رهاناتهم السابقة على مخرجات مؤتمر مدريد للسلام. اليوم، ومع تهاوي النظام العربي أمام إسرائيل، وتسابق الأنظمة العربية على التطبيع مع الكيان المحتل، والتخلي عن مبادرة بيروت العربية، تسجّل للفلسطيني، لا عليه، إضاعته الفرص الوهمية، وشجاعة الرجوع لتصحيح معادلة الصراع مع الاحتلال.

بعد فشل كل فرص الرضوخ والخنوع، على الفلسطيني تغيير المسار بإجراء مراجعةٍ شاملةٍ لخياراته السياسية والنضالية كافة، واشتقاق استراتيجية نضالية ترفض كل مشاريع التصفية، وتقوم في عمقها على تصويب العلاقة مع الشعوب العربية القابضة على القضية الفلسطينية، بوصفها قضية العرب المركزية. في المرحلة الراهنة من المواجهة المستمرّة والمتجدّدة مع الاحتلال، أمام الفلسطيني فرصة حقيقية، يجب عدم إضاعتها أو التفريط بها، والمباشرة بإنهاء الانقسام وترميم البيت الداخلي، خطوات حيوية تتزامن وتتوازى مع اتفاق المجموع الفلسطيني على استراتيجية مقاومة، ترفض فرصا وهمية تسعى إلى تصفية الحقوق الفلسطينية. استراتيجية تُحرّر الطاقات الفلسطينية من معتقلات "الدور الوظيفي" وقيود "التنسيق الأمني"، وتطلقها في ساحات النضال على قاعدة التمسّك بالحقوق الوطنية المشروعة. استراتيجية تتنبّى فك الارتباط مع الاحتلال، وتستبدله باشتباك كامل مع المحتل على امتداد الجغرافيا الفلسطينية.

 

AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.