الفلسطينيون والتطبيع السعودي المحتمل

01 أكتوبر 2023

(جميل ملاعب)

+ الخط -

تتواتر الأنباء المعنيّة بمسار تطبيع العلاقات السعودية الصهيونية، خصوصًا بعد تصريحات كلٍّ من رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إذ قال الأول "إنّ إسرائيل على أعتاب التطبيع مع السعودية" في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة العامّة في دورتها الثامنة والسبعين، في 22 الشهر الماضي (سبتمبر/ أيلول) في حين وصف الثاني مسار تطبيع بلاده مع الاحتلال الصهيوني بقوله "نقترب كلّ يومٍ أكثر فأكثر"، في لقاءٍ مع شبكة فوكس نيوز الأميركية، يوم 21 الشهر الماضي.
سبقت تلك التصريحات جملةٌ من الخطوات التطبيعية العملية، لعل أبرزها فتح المجال الجوي السعودي أمام الطيران المدني الصهيوني، ومشاركة وفدٍ صهيونيٍ رسميٍ في اجتماع منظمة ألأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافية (يونيسكو) في الرياض، في 11 الشهر الماضي. ذلك كله جعل من التطبيع السعودي - الصهيوني مسألة وقتٍ لا أكثر، إلّا في حال حدوث انقلابٍ سياسيٍ فلسطينيٍ، أو إقليميٍ، أو دوليٍ يعيد خلط أوراق الطرفين، ومصالحهما وحساباتهما، وهو أمرٌ مستبعدٌ قليلًا في الأفق المنظور.
بناءً عليه، ونظرًا إلى احتمالية التطبيع المرتفعة، علينا الخوض في تداعياته على القضية الفلسطينية، وعلى الفلسطينيين عامّةً، التي وصفها ممثّل الاحتلال الصهيوني في الأمم المتحدة، جلعاد أردان، بأنّها سوف تساهم في "عزل الفلسطينيين وستتركهم وحيدين"، وهو ما يخشاه فلسطينيون كثر.

تراجع دعم النظام الرسمي العربي مسار التحرر الفلسطيني كثيرًا منذ سنواتٍ عديدةٍ، باستثناء بعض الدول الإقليمية

على الصعيد الرسمي؛ وعلى الرغم من مكانتها البارزة على الصعيدين الإقليمي والدولي، إلّا أنّها لم تلعب دورًا محوريًا في دعم المسار التحرّري الفلسطيني منذ نهاية الانتفاضة الثانية، ويمكن القول منذ بداية مساري مدريد وأوسلو التفاوضيين، بل وربما منذ نهاية الحقبة الناصرية، لأسبابٍ عديدةٍ. أولها؛ تمكن المملكة من تثبيت مكانتها الإقليمية، بعد التنافس المحتدم مع نظام جمال عبد الناصر. وثانيها؛ ابتعاد المملكة عن حدود فلسطين التاريخية، منذ طلب مؤسّس المملكة عبد العزيز آل سعود من مصر أن تتولّى حماية جزيرتي تيران وصنافير، اللتين تقعان في أقصى شمال البحر الأحمر، وتتحكّمان في "مضيق تيران"، الذي يفضي إلى ميناء إيلات ذي الأهمّية الاستراتيجية الكبرى للاحتلال الصهيوني.
في المقابل؛ دعم الشعب السعودي القضية الفلسطينية وشعبها دائمًا، سواء عبر التبرّعات المالية السخية، أو من خلال مناصرتها ومناصرة الحقوق الفلسطينية معنويًا وإعلاميًا، غير أنّ دور الشعب السعودي سياسيًا محدودٌ جدًا، أسوةً بمعظم شعوب المنطقة.
إقليميًا؛ تراجع دعم النظام الرسمي العربي مسار التحرر الفلسطيني كثيرًا منذ سنواتٍ عديدةٍ، باستثناء بعض الدول الإقليمية، التي قدّمت دعمًا موجهًا ومضبوطًا بغرض استثمار القضية الفلسطينية في حساباتها الإقليمية، وأحيانًا الداخلية، خصوصًا المتعلقة بإحكام قبضتها على شعوبها، كما في دعم أنظمة كلٍّ من سورية وليبيا وإيران.

تمرّ المنطقة في خضم مرحلةٍ استثنائيةٍ غير مستقرّةٍ، تفرض على شعوبها مهمات مركّبةً عديدةً

في المقابل، وفي المرحلة نفسها، تراجع تأثير الشارع العربي على مسار التحرّر الفلسطيني، وإن حافظ على دعمه له، بحكم تراجع دعم النظام الرسمي العربي، ونتيجة إنهاء النشاط الفدائي في دول الطوق، في حين استمرّ دعم الفلسطينيين ماليًا، عبر التبرّعات الشعبية السخية، على الرغم من التضييق الأمني وملاحقة الداعمين المستمرّة، فضلاً عن الدعميْن، الإعلامي والسياسي، وما زالت القضية الفلسطينية إحدى أهمّ القضايا السياسية التي يتناولها الناشطون السياسيون والمثقفون والأحزاب والمواقع الإلكترونية السياسية، المعنية بشؤون دول المنطقة الداخلية أو الإقليمية.
لكن ومنذ بداية الموجات الثورية العربية؛ في نهاية عام 2010، وبعد صعود قوى الثورة المضادّة، وازدياد عنف النظام الرسمي العربي، واجهت شعوب المنطقة تحدّياتٍ ذاتيةً استثنائيةً، في معظم دول المنطقة، خصوصًا سورية واليمن ولبنان والعراق والأردن وتونس ومصر والسودان والجزائر والمغرب والبحرين، وهو ما فرض عليها التصدّي لهذه التحدّيات حين تقدر، أو التعامل والتكيف معها حين يصعب عليها مواجهتها وتجاوزها. لذا تراجع دعم شعوب المنطقة إلى حدٍ ما، بحكم هذه الصعوبات الاستثنائية، لكنه لم ينته كلّيًا، وهو ما ترافق مع ترهل النظام الرسمي الفلسطيني، وغياب الأطر التنظيمية القيادية على المستوى الشعبي الفلسطيني، رغم حيوية نضالية وديمومته. وفي ظلّ هذه الظروف الاستثنائية التي تواجه شعوب المنطقة، سارعت دولٌ عديدةٌ من المنطقة إلى تطبيع علاقاتها مع الاحتلال الصهيوني، مستغلةً تراجع تأثير شعوب المنطقة، وانشغالها بالتحديات الذاتية الراهنة، وهو ما حرّرها نسبيًا من مساءلة الشارع وضغطه.
بناءً على كلّ ما سبق؛ يمكن القول إنّ المنطقة تمرّ في خضم مرحلةٍ استثنائيةٍ غير مستقرةٍ، تفرض على شعوبها مهمات مركبةً عديدةً، لذا ونتيجةً لطبيعة المرحلة وعدم استقرارها، يصعب التكهن باستمرار تداعياتها واستقرارها، سواء على صعيد ديمومة اتّفاقية التطبيع، أو على مستوى استمرار انشغال شعوب المنطقة بتحدياتهم الذاتية الراهنة، وهو ما يمثّل اختلافًا جوهريًا عن مساري التطبيع المصري والأردني، اللذين انطلقا من وضعٍ ذاتيٍ وإقليميٍ مستقرٍ؛ أو شبه مستقرٍ بالحد الأدنى، ليمضي مسار التطبيع مع كلٍّ منهما، بمسارٍ بطيءٍ ومتعرجٍ، عجز عن اختراق القطاعات الشعبية في كلٍّ منهما.

لن يتمكّن النظام الرسمي العربي من ضمان استمرار مساره التطبيعي فترة طويلة، خصوصًا في ظلّ استمرار جرائم الاحتلال الصهيوني

طبعًا؛ لا يعني ذلك عدم تأثير تطبيع العلاقات السعودية - الصهيونية على القضية الفلسطينية وشعبها، بقدر ما يعني محدودية تأثيره على صعيدي الزمن والحجم، إذ له انعكاسٌ سلبيٌ على معنويات الفلسطينيين، كما سوف تواجه شعوب المنطقة تحدّياتٍ جديدةً تعيق قدرتها على دعم القضية الفلسطينية وشعبها ومناصرتهما، وهو ما سوف يدفعها إلى ابتكار أنماطٍ ووسائل جديدةٍ، يصعُب على النظام الرسمي العربي محاصرتها.
كذلك لن يتمكّن النظام الرسمي العربي من ضمان استمرار مساره التطبيعي فترة طويلة، خصوصًا في ظلّ استمرار جرائم الاحتلال الصهيوني، واستمرار النضال الشعبي الفلسطيني، اللذيْن قد يفجّران الغضب الشعبي إقليميًا على حين غرّة، تمامًا كما تفجّر في أعقاب الانتفاضة الثانية، ونسبيًا في أعقاب هبّة كلّ فلسطين.
أخيرًا؛ اختفى دعم النظام الرسمي العربي مسار التحرّر الفلسطيني منذ مدةٍ طويلةٍ، وهو ما سوف يستمر بعد تطبيع العلاقات الرسمية السعودية - الصهيونية، خصوصًا في غياب الدعم الدولي بعد تفكّك الاتّحاد السوفييتي، لكن علينا الانتباه إلى المتغيّرات الكبرى على المستوى الشعبي العالمي، خصوصًا في دول العالم المتقدم، في كلٍّ من أميركا وأوروبا، اللتين تشهدان تصاعدًا بارزًا في دعم الحقوق الفلسطينية والنضال الشعبي الفلسطيني، وهو ما يفتح آفاقًا كثيرةً أمام الفلسطينيين أولاً، وأمام شعوب المنطقة الراغبة في دعم قضية فلسطين وشعبها، كما يعني استحالة عزل الفلسطينيين إقليميًا ودوليًا، رغم التطبيع الرسمي مع الاحتلال، طالما حافظت شعوب المنطقة على مناصرتهم، وطالما تصاعد حجم مناصرتهم دوليًا.