الفرق شاسعٌ بين حسابي الحقل والبيدر
عندما كانت الإنسانية مشغولة بتعميق النقاش في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كانت الحركة الصهيونية تعمل بشكل موازٍ على ارتكاب أكبر مظلمة في التاريخ المعاصر، وهي طرد شعب من أرضه، وإقامة كيان عنصري بغيض، لا يعترف بأي حقّ للسكان الأصليين. مفارقة عجيبة قامت بها الدول الغربية بوعي في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية، فمن جهةٍ، دعمت التوجّه نحو تمكين الإنسان من كل حقوقه، بقطع النظر عن لونه وجنسه ودينه وعرقه، فكانت تلك لحظةً تاريخيةً غير مسبوقة للقطع مع الأفكار البالية والاستعمارية التي أدّت إلى اندلاع حربين عالميتين كادتا أن تعرّضا البشرية إلى الفناء. وفي المقابل، تآمرت هذه الدول على شعب مسالم، ودفعت به نحو طريق طويل مليء بالمظالم والحروب الدامية. وها هي الدول والحكومات نفسها تشارك بوعي وإصرار في عدوان جديد على هذا الشعب، بلغ من الوحشية ما جعله بمثابة المحرقة تلتهم المدنيين، وتقضي على النوع البشري، وتنسف الأحياء نسفا، وتحوّل المدن إلى خراب.
عندما صدر الإعلان العالمي في 10 ديسمبر/ كانون الأول 1948، كانت معظم الدول العربية منهمكة في النضال من أجل الاستقلال. ومع ذلك، ضغطت الشعوب، وأجبرت بعض أنظمتها على الدخول في حربٍ من أجل الحيلولة دون اغتصاب فلسطين. فشلت تلك الجيوش لكونها لم تكن مؤهلة وقادرة على إفشال العدوان. أما اليوم، فقد اختلف المشهد كليا. رغم وعي الجميع أن الصهيونية تطرد حاليا بقية الفلسطينيين خارج وطنهم واحتلال أراضيهم بالحديد والنار، تلازم الحكومات العربية الصمت والهدوء والحذر، تنتظر نتائج الحرب لتكيّف سياساتها مستقبلا. تفعل ذلك وهي تعلم جيدا أن كل الأطراف قد شرعت في نحت تصوّرات لتحديد مستقبل فلسطين بعد انتهاء المحرقة، وتشكّل الجغرافيا الجديدة التي يفترض أن ينجزها الجيش الاسرائيلي في غزّة والضفة الغربية والقدس.
اللافت للنظر أنه لم يكن لدى المجموعتين العربية والإسلامية، بعد مؤتمريهما، تصوّر للمستقبل، وهو ما جعل البيانين اللذين صدرا عنهما يتّسمان بالشجب، من دون إلزام الحكومات بأي قرار عملي، سواء لدعم الفلسطينيين أو التحرّك الدبلوماسي الجماعي على الصعيد الدولي. حظر الوزراء بدون أجندة وعادوا الى دولهم بدون برنامج.
في هذا السياق، قال وزير الخارجية السابق لتونس أحمد ونيس، في حديثي معه، على أن قادة الدول العربية والإسلامية ضيّعوا فرصة هامة عندما رفضوا فكرة التقدّم بطلب جماعي لمقاضاة إسرائيل أمام محكمة الجنايات الدولية بسبب جرائم الحرب التي ارتكبتها في قطاع غزّة، خصوصا بعد الضغط على الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس من أجل الابتعاد عن الجانب السياسي في ما يتعلق بغزّة، والاكتفاء بالإشارة إلى القانون الإنساني. كما أن الدول العربية رفضت مبدأ التضحية تضامنا مع فلسطين، رغم أن 132 دولة اعترفت بالدولة الفلسطينية، وفي مقدّمتها الدول العربية والإسلامية. كان بالإمكان إعلان سحب السفراء، أو إيقاف التزويد بالطاقة أو غيرها من آليات الضغط الدبلوماسي. ونتيحة غياب الفاعل العربي الاستراتيجي، ها هو الشعب الفلسطيني يدفع الثمن وحده. يصف الوزير التونسي السابق هذا الواقع بالانهيار الاستراتيجي، وهو يعكس غياب الإحساس بالواجب الوطني لدى الحكومات العربية، ويكشف عن طبيعة الثقافة السياسية السائدة، وعمق المسافة التي تفصل العرب عن حضارة هذا الزمان.
استغلّ وزير الدفاع الإسرائيلي، غالانت، هذه الأوضاع ليتوجه، أخيرا، إلى قيادة حركة حماس، ويذكّرها بأنها "معزولة". لم ينخرط معها في هذه الحرب أي طرفٍ آخر، بما في ذلك إيران وحزب الله الذي اكتفى، حسب قوله، بأسلوب المناوشات.
المؤكّد أن المقاومة تجد نفسها في الداخل وحيدة. بالرغم من ذلك هي مستبسلة في الدفاع عن الأرض والعرض وكرامة الجميع. تدرك حسابات الأنظمة وتعلم ثغراتها وارتباطاتها، لكنها ترفض الاشتباك معها، خصوصا في هذه المرحلة من الحرب، أملها في الله كبير، وقدرتها على الصمود فاجأت الجميع. وهنا بيت القصيد، ما تخشاه جهاتٌ عربيةُ عديدةٌ أن تنتهي المعركة إلى انتصار حماس. عندها ستختلط أوراقٌ كثيرة!