الغنوشي عدواً لدوداً للاستبداد
لا تخفى المكانة الكبيرة التي بات يمثلها اليوم زعيم حركة النهضة في تونس الشيخ راشد الغنوشي، وعلى امتداد العقود الخمسة الماضية، قامة فكرية ومرجعية كبيرة، بوصفه آخر رموز الحركات الإسلامية، وأبرز منظرّي الإسلام الديمقراطي كما يُطلق عليه الغنوشي نفسه، ومن ثم لا يقل حضوراً ومكانة عن منظّري التيارات الإسلامية الأخرى، كأبي الأعلى المودودي وسيد قطب أو حسن الترابي أو أي من رموز ما يُسمى بالإسلام السياسي. اعتقال الغنوشي منذ مداهمة منزله في 17 إبريل/ نيسان الجاري، ليلة 27 رمضان الماضي، لحظة قاتمة في تاريخ تونس، كما وصفتها صحيفة الغارديان البريطانية، فهو ذروة التصعيد الانقلابي، ويصيب هذه المرّة رجلاً يتجاوز، برمزيته الفكرية والسياسية، اليوم، الحالة التونسية، إذ تمنحه مكانته الفكرية كل هذا الحضور في الدوائر الفكرية والسياسية، الإقليمية والدولية على حد سواء، وقد دلت عليه حالة الرفض الكبير والإدانة والاستنكار لعملية اعتقاله وإيداعه السجن من دون أي تهمة واضحة، سوى أنه مناوئ للانقلاب الأسخف في تاريخ الانقلابات في العالم.
ظلّ راشد الغنوشي عدوّاً لدوداً للديكتاتوريات، وصُداعاً حادّاً لها، وأحد أهم أعدائها في الحالة التونسية، حيث شكّل منذ بداية مشواره السياسي، الذي بدأه بتأسيسه حركة الاتجاه الإسلامي في العام 1969، في ظل حكم بورقيبة، وتالياً إبان حكم زين العابدين بن علي، وظلّ ثابتاً في موقفه المبدئي والرافض الاستبدادَ السياسي، فاعتُقل وحُكم بالسجن أكثر من مرة في عام 1981، بعد الحكم عليه بالسجن عشر سنوات، ولكنه خرج منه 1984، ثم سُجن عام 1987، وأُطلق بعدها ليغادر تونس ويظل في المنفى نحو 20 عاماً. خبرَ الأنظمة الاستبدادية الغبية جيداً، وتمكّن من منازلتها فكرياً وسياسياً على امتداد تاريخيه النضالي السياسي، وانتصر في جُل معاركه معها، وتمكّن من صياغة خريطة طريق لشعبه وللحركات النضالية والفكرية، وساهم في تفكيك بنية الاستبداد الفكري والسياسي معاً، وهو ما جعله يحظى بمكانةٍ كبيرة، مفكّراً ومناضلاً في سبيل الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية. وكغيره من المناضلين في ميادين السياسة والأفكار ممن لهم اجتهادات، قد يخطئ في بعضها، لكنه يبقى من أهم الذين حافظوا على ثبات مواقفهم ونزاهة ضمائرهم من كل ما يمكن أن يلوثها من نزوات شخصية. وها هو يدفع ضريبة هذا الثبات والنقاء النضالي اليوم في سجون الجلاد، الذي يعتقد أو يتوهم أنه بذلك سيقضي على رجل بحجم هذا الرجل، الذي لا يزيده السجن إلا صلابة ويقيناً بصوابيه أفكاره ومساره الذي مضى عليه طوال مشواره النضالي في مقارعة الظلم والاستبداد. فالأفكار لا تزيدها السجون والمعتقلات والمنافي إلا قوة وصلابة واختباراً لمصداقيتها وثباتها، ونفعها. ولهذا يخطئ الجلادون في اختيار طريقة تعاطيهم مع هذه الأفكار، وخصوصاً حينما تكون هذه الأفكار هي أفكار الحرية والكرامة والإنسانية، وأمامها يتعرّى الجلادون الصغار ويظهرون بذاكرة السناجب التي تنسى تجاربها السابقة وتعيش ذاكراتها تجربة اللحظة التي تمرّ بها، وتنسى، في نهاية التجربة، مقدّمتها، فتكرّر أخطاءها الدائمة والعبثية.
محاولة النيْل من الشيخ، وهو رئيس للبرلمان المنحل قسراً في بلده، بالسجن، وهو المناضل الذي خبر السجون والمنافي، لن تزيده إلا رصيداً نضالياً يُضاف إلى قائمة نضالاته وتضحياته
ما تعيشه تونس اليوم ليس في معزلٍ عما جرى في عواصم الربيع العربي ككل، منذ عشر سنوات، وهو تصفية حسابات الغرب وأدواته في المنطقة مع هذه الشعوب، التي خرجت قبل عشر سنوات بثورةٍ هي الأسمى والأكثر مدنيةً وسلاماً منذ عرف الإنسان فكرة الثورة. رغم ما حاولت أن تقدّمه التجربة التونسية من نموذج أكثر سلاماً وديمقراطيةً من غيرها، إلا أن هذا النموذج لم يُعفِ تونس والتونسيين من دفع ثمن تفكيرهم بالثورة من أساسها، وتبنّيهم النموذج السلمي المدني الحضاري في التغيير والثورة. ولهذا، ما يقدّمه التونسيون اليوم، وفي مقدمتهم راشد الغنوشي، ليس سوى ضريبة تفكيرهم بوجود نموذج وتجربة أكثر ديمقراطية وسلاماً من غيرها، وقبل هذا كله ضريبة تفجيرهم ثورة الربيع العربي.
يقول من يقول إن الغنوشي ما كان له أن يظل على رأس حركة النهضة كل هذا الوقت، معاصراً كل الديكتاتوريات التي عاركها طويلاً، فيما هو لم يتنازل عن مكانه في الصف الأول على رأس الحركة، وأن تشبثه بمكانه نقيض لديمقراطيته وعداوته الاستبداد. ولا يخلو مثل هذا الطرح من الوجاهة في غير هذه اللحظة، وكما لا يخلو أيضاً من التشفي والتسطيح أيضاً، لأسباب عدة، في مقدمتها هو ما يمر به الغنوشي اليوم من محنة سجن، عدا عدم مناسبة هذه اللحظة لمثل هذا النقاش.
ساهم الغنوشي في تفكيك بنية الاستبداد الفكري والسياسي، ما جعله يحظى بمكانةٍ كبيرة، مفكّراً ومناضلاً في سبيل الحرية والعدالة والكرامة والديمقراطية
ختاماً، محاولة النيْل من الشيخ، وهو رئيس للبرلمان المنحل قسراً في بلده، بالسجن، وهو المناضل الذي خبر السجون والمنافي، لن تزيده إلا رصيداً نضالياً يُضاف إلى قائمة نضالاته وتضحياته الطويلة في مقارعة الاستبداد. كما سيمنحه السجنُ هذه المرّة براءة من القصور والإخفاق السياسي، الذي ربما يكون قد مُني به بوصفه فاعلاً سياسياً رئيسياً على امتداد هذه العشرية، وسيُعيد له السجن صورة المناضل الوطني الذي يضحي في مقدمة الصفوف ويقارع الاستبداد والظلم نيابة عن الناس، ودفاعاً عن قضاياهم وحقوقهم وحرّياتهم، ويمنحهم طاقة نضالية، وهو في هذه السن شيخاً كبيراً تتناوشه الأمراض، وهو صامد وثابت، وليس في وسعه الاستسلام أبداً، مقدّماً صورة ناصعة للمناضل الصلب، فيما يتقزّم السجّان وتلاحق صورته اللعنات عبر التاريخ.