عن إسطنبول العربية أيضاً وأيضاً
اختُتِم الأحد الماضي (18 أغسطس/ آب الجاري)، معرضُ إسطنبول الدولي التاسع للكتاب العربي، تحت شعار "الكتاب هو المستقبل". والمعرض هو الحدث الثقافي العربي الأبرز والأكبر للجاليات العربية في إسطنبول، وقد جاء هذا العام في ظرف ربّما ليس جيّداً اقتصادياً، ونفسياً أيضاً، بفعل عديد من الإجراءات تخصّ المقيمين العرب، والأجانب عموماً في تركيا، التي مثّلت مكاناً بديلاً لنخبٍ عربيةٍ غادرت أوطانها مُكرَهةً منذ عشر سنوات مضت بفعل فشل ثورات الربيع العربي.
مع ذلك، تعدّ إقامة مثل هذا المعرض الثقافي الكبير في حدّ ذاتها، وفي ظرف كهذا، نجاجاً كبيراً في مواجهة حالة التراجع في كلّ شيء (كاتب هذه السطور حاضرٌ في هذه الفعالية الثقافية منذ لحظة تأسيسها الأولى من الناشر والمثقف العربي نوّاف القديمي، مدير الشبكة العربية للنشر، في 2015، عبر معرض عربي صغير أقيم في اتّحاد الأدباء والكتّاب الأتراك في منطقة السلطان أحمد). أمّا عن معرض هذا العام للكتاب في دورته التاسعة، فثمّة جملةُ ملاحظاتٍ يمكن الخروج بها من خلال ما لاحظه الكاتب، وما لمسه طوال أيّام المعرض الذي حضر جُلّ أيامه كما في كلّ عام، إذ يمثّل المعرض بالنسبة للنخب العربية المستقرّة في مدينةٍ كإسطبنول مترامية الأطراف فرصةً ثمينةً، كأكثر حدث أهمّية يجتمع فيه المثقّفون العرب والناشرون والكتّاب والساسة كلّ عام، بل قد يصل الأمر إلى أنّ معظم من تلتقيهم في المعرض لا تلتقيهم إلّا على هامش المعرض من عام إلى آخر، في ظلّ تراجعِ الفعّاليات الثقافية العربية، بل وضعفها أخيراً.
الملاحظة الأولى أنّ استمرار انعقاد المعرض، في حدّ ذاته، وإن تقدم هذا العام شهرين عن العام الماضي، يمثّل تكريساً لاستمرار هذه التظاهرة الثقافية العربية الأبرز في مدينة مترامية الأطراف كإسطنبول، يُقتل فيها الوقت والمال والجهد، لفرط اتّساعها وتعقيدات الحياة فيها، وبالتالي، استمرار إقامة المعرض يُعدُّ نجاحاً في حدّ ذاته، في ظلّ التحدّيات القائمة أمام عرب هذه المدينة، ومستعربيها، معاً.
تزايد حجم حركة الترجمة من العربية إلى التركية، وهو ما تلمسه في زيارةِ عدد كبير من المترجمين والناشرين الأتراك المعرض
ثانياً، صحيح أنّه غابت دورٌ كثيرة شاركت في الدورة الثامنة من المعرض، وهي دورٌ متنوعةُ المشاربِ والتوجهاتِ، ما جعل المعرضَ يبدو بلونٍ واحدٍ هذا العام، وهو اللون الإسلامي الواضح للمعرض، وهذا لا يعني سوى أنّ للغائبين هذا العام أسباب، ربّما تغير موعد المعرض، وتلخبطت مواعيدهم وجداولهم، أو بفعل ربّما إجراءات الحصول على تأشيرات الدخول، والاحتمال الأقرب تراجع القيمة الشرائية لليرة التركية، ما ينعكس في النخب الإسطنبولية القارئة، ما جعله سبباً لعدم مشاركتهم في هذه الدورة من المعرض.
الملاحظة الثالثة، الأبرز لهذا العام، الحضور اللافت لدور نشر تركية مهتمّة بالكتاب العربي، وهو حضور لافت فعلاً لم يكن له وجود خلال الدورات السابقة لمعارض إسطنبول الدولية للكتاب العربي، وهو ما يعني أنّ مساحة الاستعراب في الحالة التركية بدأت بتسجيل الحضور (رغم الظروف الحاصلة كلّها)، عدا اقتحام الناشرين الأتراك هذا المجال الذي لم يكونوا يهتمّون به، في دلالةٍ على بدء اهتمام الناشر التركي بالثقافة والكتاب العربي.
ومما يلفت الانتباه، في هذه الدورة من المعرض، وهي الملاحظة الرابعة، حجم حركة الترجمة من العربية إلى التركية، وهو ما تلمسه في زيارةِ عدد كبير من المترجمين والناشرين الأتراك المعرض، وأنّ هذه الترجمة من العربية للتركية تقوم بها في الغالب، إن لم يكن في الأساس، دورُ النشر التركية الأهلية التجارية، وهو تغييب لذلك الطرف العربي للأسف، فقد تعرّفت إلى عدة ناشرين ومترجمين، أخبروني بأنّ كُتب محمد عابد الجابري، وحسن حنفي، وطه عبد الرحمن، وراشد الغنّوشي، وغيرهم من المُفكّرين العرب، تُرجمت منذ سنوات.
خامساً، يمثل المعرض للنخب العربية في إسطنبول منصّةً مهمّةً للتواصل والحضور طوال أيامه لما يقدّمه لهم المعرضُ من مكان مناسب للقاء، الذي يمثّل لدى بعضٍ منهم لقاءً سنوياً يلتقون فيه في ظلّ انعدام الفعّاليات الثقافية الأخرى طوال العام، مع ملاحظة أنّ المعرض، في ما يتعلّق بترتيب الفعّاليات الثقافية المصاحبة، كالندوات والمحاضرات، لم يكن جيّداً، لأنّه تُرتّب فعّاليات ذات لون واحد، ولا توجد فعّالية مهمّة وكبيرة، أي عدم تنوّع الضيوف المحاضرين، وتكرار الأسماء نفسها طوال دورات المعرض السابقة، وهو ما يجعل هذه الفعّاليات روتينيةً غيرَ مهمّةٍ لدى شريحةٍ مهمّةٍ من الزوار المُهتمّين بالفعّاليات الثقافية المُصاحبة.
معارض الكتب أكثر منصّات الحوارات والنقاشات أهمّية، يجب تعزيزها وعدم الجمود عند صيغة واحدة للفعّاليات والمناشط
سادساً، يمثّل المعرض فرصةً للنخب العربية في الغربيَن الأوروبي والأميركي، وكذلك المُستعربين والمسلمين عموماً من شرق (ووسط) آسيا وروسيا والبلقان الذين يحضرون هذا المعرض بشكل لافت، وهو ما يساهم أيضاً في مدّ جسور التواصل الثقافي العربي مع هذه المجتمعات والمَهاجر، وهذا من جوانب الجذب السياحي المهمّة لمدينة جميلة كإسطنبول، التي تضفي عليها مثل هذه الفعّاليات مسحةً وتنوعاً مهمّاً عاشته طوال تاريخها، مع تراجع ذلك في فترات ومحطّات معينة.
سابعاً، ومثلما يمثّل المعرض تظاهرةً ثقافيةً كبيرةً هو أيضاً تظاهرةٌ اقتصاديةٌ وتجاريةٌ، فعلى هامشه تُقام لقاءات وفعّاليات اقتصادية عديدة في شتّى فنون صناعة الكتاب والنشر والتسويق الحديث، وهو ما يمثّل أيضاً إضافةً اقتصاديةً مهمّة في الظروف الراهنة اقتصادياً.
ما تصنعه الثقافة من تجسير الهوّات بين الشعوب والأمم أعظم بكثير ممّا تقوم به السياسة والدبلوماسية، وهو ما يتطلّب شغلاً كبيراً في هذا الاتجاه، وإيجاد حالة حوارية ثقافوية دائمة بين المفكّرين والمثقّفين والكتّاب، فمعارض الكتب هي أهمّ منصّاتِ هذه الحوارات والنقاشات، التي يجب تعزيزها والحفاظ عليها، وتطويرها من دورة لأخرى، وعدم الجمود عند صيغة واحدة للفعّاليات والمناشط، وهو ما يعني أنّ مسؤولية القائمين على معرض إسطنبول الدولي للكتاب كبيرة، وعليهم أن ينصتوا لكلّ نقد ونصيحة ورأي، لتحسين مسار هذه الفعالية الثقافية الأكبر خارج جغرافيا العالم العربي، وهو ما يتطلّب حالةً من التواصل مع مختلف الكتّاب والمفّكرين العرب والترك وغيرهم، لحضور مثل هذه الفعّاليات وإحيائها بمناشط ومحاضرات ولقاءات عدّة، لا تقتصر على لون واحد.