العرب ورفض الذات الجمعي
تثير الانتباه تلك الحساسية المفرطة تجاه نقد ثقافتنا، نحن العرب، التي نتعاطى بها مع العالم من حولنا، ومع أبناء جلدتنا حين يصدر عن واحدهم كلام ينطوي على نقد ثقافتنا الجمعية أو ربما المزاح بشأنها. وعادة ما يجري تلبيس تلك الحساسية تجاه النقد لبوس الدفاع عن أصالتنا، أو عن عاداتنا وتقاليدنا، أو عن ديننا، فيما جوهر الأمر أننا نثور ونغضب ونتصرّف بحساسية مفرطة لأننا نفتقر إلى الثقة بذاتنا الجمعية، أمة وشعوبا في هذه المرحلة التاريخية الراهنة؛ أي أننا نرفض ذواتنا المعاصرة، لما فيها من تأخر حضاري وهزيمة عسكرية وافتقاد للحرية وحقوق الإنسان الطبيعية. ندرك أن فينا مركب نقص، ونتمنّى أن لا يراه أحد، فإذا ما رآه وأدركه غضبنا منه، لأننا في الحقيقة غاضبون من أنفسنا.
خذ مثلاً ما جرى في غير بلد عربي، حين تعرّض برنامج تلفزيوني ما، ساخر أو جاد أو حواري أو إخباري، بالنقد لشخصيةٍ قياديةٍ ذات طابع طائفي أو قبلي أو جهوي، أو لعادات منطقة جغرافية ما ولهجتها. ثارت، على الفور، الفئة الاجتماعية التي تنتمي لها تلك الشخصية العامة، أو التي عُرضت ثقافتها وسلوكها بطريقةٍ تنطوي على المزاح، معتبرةً الأمر مساساً بالطائفة كلها، أو القبيلة أو المنطقة الجغرافية، لا مجرّد نقد لشخصٍ ما، أو مجرّد مزاح لا يُقصد منه الإساءة. وبهذه الطريقة، تتيح الطائفة أو القبيلة أو المنطقة الجغرافية التي ثارت لمن لم يسمع بالأمر أن يعرف به، فينتشر، ويتضاعف أثره غير المرغوب، وتكون نتائج ردّة الفعل الغاضبة عكسية تماماً.
أمة تعيش على هامش التاريخ حالياً، بينما تحتشد ذاكرتها بأمجاد الماضي، وقصص التفوق والتأثير الحضاري
والحساسية الزائدة هذه التي نعطي من خلالها لمواقف تافهة وعابرة قيمةً أكبر من حجمها الحقيقي، هي إحدى مؤشّرات انخفاض تقدير الذات الجمعية واحترامها التي تجتاح إحساسنا بأنفسنا، أمة تعيش على هامش التاريخ حالياً، بينما تحتشد ذاكرتها بأمجاد الماضي، وقصص التفوق والتأثير الحضاري.
لكن هذا ليس كل شيء. الأمر لا يتوقف عند الحساسية الزائدة تجاه النقد والمزاح. ينتابنا دائماً شعور بعدم القيمة مقارنة بالأمم الأخرى. مثلاً، يتناقل الناس قصصاً خيالية عمّا يسمونه "كوكب اليابان"، حيث تجري الحياة هناك بمثالية مدهشة. والأمر يشبه إعجابنا بـ"الخواجا" المستمر منذ وطئ ذلك الخواجا أرضنا، مستعمراً ومنتصراً في أواخر القرن الثامن عشر، بما يتوافق وقول ابن خلدون في مقدمته: "المغلوب مولع أبداً بتقليد الغالب". أما حكاية كوكب اليابان فإنها تشي بما يفيض عن قاعدة ابن خلدون: إنه الشعور بعدم القيمة، والدونية مقارنةً بالأمم الأخرى، فكان مفاجئاً لكثيرين ما عرضه مقطع فيديو جرى تناقله لمّا انتشر فيروس كورونا المستجد قبل عام، لصراع بين سيداتٍ على شراء كمّامات داخل متجر في طوكيو، كشف أن اليابانيين أناس عاديون، يعيشون على كوكبنا نفسه، وتنتابهم مخاوف البشر التقليدية ومشاعرهم ذاتها من غيرة وقلق وعدوانية وتعلق بالحياة!
الشعور المتوطن فينا بانخفاض تقدير الذات، يدفع إلى تبديد طاقات موجودة فعلاً، وقدرات فردية عربية يمكن أن تنجح وتبرز في أوطانها، بدل أن تهاجر نحو الغرب
ولعل شيوع نظرية المؤامرة بين العرب في هذا الزمان ليس بعيداً عن شعورهم الجمعي بانخفاض تقدير الذات، فالنظرية المتهافتة تلك قوامها أن الأمم الأخرى تشعر بقيمتنا وتعرف قدرتنا، لذلك تتآمر علينا، كي لا نحقق أنفسنا ونلج في التاريخ من جديد. لا ننظر إلى أنفسنا باحترام، نتيجة تأخرنا الحضاري وهزيمتنا التي باتت مزمنة، ونعرف أن الأمم الأخرى تدرك هامشيتنا وضآلتنا الحضارية، فنريد، عبر نظرية المؤامرة، أن نقنع أنفسنا بعكس ما يسكن فينا. وليس موقف عامة الناس في الدول العربية من تلقي لقاحات كوفيد 19 عن ذلك ببعيد، إذ هل ثمّة تفسير عقلاني لما شاع بين قطاعات غير قليلة منهم، إن الغرب يريد زرع شرائح إلكترونية في أجسادنا، كي يتمكن من تتبعنا ومراقبتنا؟!
هذا الشعور المتوطن فينا بانخفاض تقدير الذات، يدفع إلى تبديد طاقات موجودة فعلاً، وقدرات فردية عربية يمكن أن تنجح وتبرز في أوطانها، بدل أن تهاجر نحو الغرب، لأنه يزرع فينا شعوراً عاماً بالفشل، حتى لو حققنا إنجازاتٍ مهمة، يمكن أن تكون بمثابة خطواتٍ إيجابيةٍ على طريق التحقق الحضاري. وهكذا نحارب النجاح، لأننا لا نظن في أنفسنا قدرة جماعية على النجاح، شعوبا أو أمة، بحيث يكون حاصل جمع نجاحات أفراد يلقون من أوطانهم ومجتمعاتهم التشجيع والتصفيق والمباركة والمساندة نجاحاً وطنياً شاملاً، يعيد فينا الثقة بالنفس والشعور بالكرامة، ويضعنا على طريق العودة إلى مسار التاريخ.
لعل شيوع نظرية المؤامرة بين العرب في هذا الزمان ليس بعيداً عن شعورهم الجمعي بانخفاض تقدير الذات
ربما علينا هنا، ومن أجل مزيد من الموضوعية، إلقاء الضوء على استثناءات في الحالة المصرية تجاه ما سبق من أوصاف للحالة العربية بعمومها، وهي وإن كانت استثناءات قليلة، لكنها تشي بتحقق أكبر في الوعي الجمعي المصري في مسألة تقدير الذات الوطنية، نظراً إلى ترسّخ شعور الدولة والشعب في مصر بعد أكثر من مائتي سنة من تأسيس دولة محمد علي، التي هي أول دولة عربية حديثة، ففي مصر، لا يثور أهل الصعيد مثلاً لأن سمير غانم أو عادل إمام تعرّض لهم بالمزاح، وعادة ما يحتفي الناس بنجاح فرد مصري في حقل معرفي أو إبداعي ما، ويجعلونه مصدر فخر يضاف إلى رصيدهم الوطني.
في محصلة أحوال العرب، السبب في شيوع نظرية المؤامرة، أو في شعور الدونية تجاه الأمم الأخرى، أو في الحساسية المؤدّية إلى الغضب تجاه النقد والمزاح، لا يكمن في مسائل ثقافية متعدّدة، ولا في ضعف التعليم أو انخفاض المعرفة، ولا في الظروف المعيشية والاقتصادية، على أهمية كل هذه الأسباب في مشكلات كثيرة نعيشها، بل السبب الحقيقي شعورنا الدائم بضعف تقدير ذاتنا الجمعية، ورفضنا أنفسنا بوصفنا أمة في هذه الظروف التاريخية الصعبة والمهينة والمذلة، الراهنة.
وعلى هذا، يعد الاهتمام بالبناء النفسي لشعوبنا وأمتنا، عنصراً أساسياً في تجاوز أزمتنا الحضارية الراهنة، وهي ليست مهمة جهة واحدة بالتأكيد، بل واجب كل من يدرك جوهر المشكلة، ويمكن أن يساهم في التصدّي لها: بين الشباب على وجه الخصوص، لأنهم رهان المستقبل، وبين الكبار أيضاً الذين أهدرت أعمارهم عقود الهزيمة والتأخر، بكل مفرداته وتجلياته.