العرب والعالم .. نحو تواصلٍ مُنتج
يُواجِه العالم، منذ نهاية القرن الماضي، جملة من التحوُّلات التي تنبئ أنّنا أمام بدايات عالم جديد، في طور الانبثاق والتَّشَكُّل. لا تشمل التحوُّلات مجال العلاقات الدولية، والقواعد التي تخضع لها، بل إنّها تنطبق أيضاً على مختلف ظواهر المجتمع، وإذا كنا نؤمن بأن دينامية التَّعَوْلُم التي تصاعدت، مصحوبةً بطغيان النيوليبرالية في الاقتصاد، ساهمت في تعميم مظاهر تغيير كثيرة لحقت أغلب المجتمعات البشرية، وبرزت، أيضاً، في مجال الصراع الدولي كما تعكسه العلاقات الدولية في عالم مضطرب.
كانت المذاهب والتيارات الفلسفية الكبرى، وقد أصبحت اليوم في حكم الخطابات المنقرضة، تستند، في النصف الأول من القرن الماضي، إلى جملةٍ من المعطيات القابلة للتأطير والتعقُّل، وبناء المفاهيم والنظريات. أما اليوم، فإن التحولات السياسية والعسكرية الكبرى التي تحصل في كثير من جغرافية العالم، في أفريقيا وآسيا وفي أوروبا، تُظْهِر أن العالم مُقبلٌ على بناء توازناتٍ جديدةٍ وترميم أخرى. كذلك فإن الطَّفْرة التقنية المتسارعة في مجال تقنيات التواصل والاتصال تجري بإيقاعاتٍ غير معهودة، وتُنتِج، في كل حين، خبراتٍ ومعارف يصعب حصرها والإحاطة بها، وذلك على الرغم من المختبرات التشاركية التي أُعِدّت للقيام بعمليات الرَّصد والمعاينة والبحث. فلم يعد من السهل حصر ما يجري في العالمين، الواقعي والافتراضي، ولا إدراكه بالصوَر التي اعتدنا أن نُرتِّب فيها ما يجري في العالم من وقائع وأحداث، الأمر الذي تترتّب عنه نتائج في المعرفة وفي التاريخ، أتصوَّر أننا لم نتمكّن بعد من تقديرها ولا بنائها.
لم يتمكَّن الغرب المُتعولِم من التحكُّم في نمط التغيُّر الذي لحق السياسة الدولية، حيث تتسارع وتيرة صعود القوى الجديد
تستدعي التحولات الجارية اليوم في عالمنا أن ينخرط العرب، بشكل عاجل، في تحقيق تواصلٍ منتجٍ، تواصلٍ منفعلٍ وفاعلٍ مع كل ما يجري في العالم، فنحن مدعوون إلى القيام بمراجعات كبرى في علاقتنا بذواتنا وفي علاقتنا بالعالم من حولنا، مراجعة في التاريخ والسياسة والمعرفة. كذلك فإننا مطالَبون بمراجعة تركة المشروع النهضوي وثنائياته، من قبيل الأنا والآخر، الذات والعالم، الإسلام والغرب، الداخل والخارج .. فكلّ هذه الثنائيات يحكمها تصوُّر للهوية والتاريخ، أصبح اليوم إرثاً مُتجَاوَزاً في العصر المعلوماتي.
ازداد الأمر تعقيداً في موضوع التحوّلات التي يعرفها العالم، عندما تحوّلت اليقينيات في الفكر إلى سَيْلٍ جارفٍ من الجزيئات والإجراءات السريعة والمتناقضة، الأمر الذي وَلَّدَ تسوناميات عديدة في كوكبنا، إذ تفشّت ظواهر العنف والتطرّف، من دون أن نملك القدرة على إدراك خطورتها، أو نباشر العمل القادر على بناء ما يَقِينَا شُرُورَها، وذلك رغم كلّ التحالفات المنشأة لمواجهتها والحدّ من مخاطرها. الطابع المركَّب والمعقَّد الذي أصبح عليه الوضع في العالم، والمتمثِّل باختلاط ظواهر عالمنا بموجات العالم الأزرق ومتاهاته، ضاعف مآزقنا وحيرتنا.
اختفت المبادئ والقيم الكبرى التي كانت تمنح العالم صلابة وسمكاً، فأصبحنا أمام عالمٍ لا يستطيع أحد الادِّعَاء بمعرفة تفاصيل ما يحصل فيه، تشهد على ذلك مظاهر التحوُّل الاقتصادي والمالي، وتؤكِّده مظاهر التحوُّل الاجتماعي والثقافي والبيئي، وينعكس كل ما ذكرنا، على كثير من مظاهر التحوُّل السياسي، وعلى آليات الممارسة الديمقراطية ومؤسّساتها، كما ينعكس على ملفات الصراع القائم ومحاوره في العالم، وبصورة تفوق ما عهدناه في العقود الأخيرة من القرن الماضي. وعندما نتأمل واقع الأحزاب والعمل الحزبي في المجتمعات الديمقراطية، نكتشف أننا أصبحنا اليوم أمام مؤسساتٍ تنشأ بسرعة، لترتب تَوافقاتٍ سريعة مرتبطة بحقبة زمنية وسياق انتخابي محدّدين، ثم تتحوّل لتضع لنفسها اسماً جديداً وتنخرط في مقتضيات لعبة جديدة وسريعة.. عَمَّت السيولة واختفت المبادئ والقيم الكبرى، لِتَحُلّ محلّها الإجراءات السريعة والظرفية.. ولهذا الأمر آثاره في مختلف مجالات الحياة.
تستدعي التحولات الجارية اليوم في عالمنا أن ينخرط العرب، بشكل عاجل، في تواصلٍ منتجٍ، منفعلٍ وفاعلٍ مع ما يجري في العالم
لم يتمكَّن الغرب المُتعولِم من التحكُّم في نمط التغيُّر الذي لحق السياسة الدولية، حيث تتسارع وتيرة صعود القوى الجديدة، مثل الصين والهند، وهي اليوم، تتّجه إلى البحث عن مكان مناسب لحضورها في عالم متغيِّر. كما تتسارع وتيرة العودة القوية لروسيا في المشرق العربي وأوروبا، وهي عودةٌ تكشف في الأزمة الأوكرانية لحظة صراعٍ فاصلةٍ في موضوع النظام الدولي الجديد الناشئ في عالم متغيِّر .. إنّها تعيدنا إلى مِلَف الثنائية القطبية بمعطياتٍ جديدة، مختلفةٍ عن التسويات التي رُتِّبَت في المشرق العربي وفي شمال أفريقيا .. ويمكن أن نُضيف إلى ما سبق انتصار الشعبوية في السياسة، وما يرافقه من انتعاش في خطابات الهوية والعداء للآخرين في بلدان أوروبية عديدة، أبرز أمثلتها النقاش الدائر اليوم في فرنسا، بمناسبة الانتخابات الرئاسية في شهر إبريل/ نيسان المقبل، الأمر الذي نتصوَّر أنّه سيفضي إلى بروز بؤر جديدة للتوتُّر في العالم، حيث يمكن أن نُعاين في جغرافياتٍ عديدةٍ ظواهر العنف الطائفي والتمييز العنصري، وقد عادت لتملأ العالم بظواهر تستوعب تراجعاً كبيراً عن قيم الحداثة والتحديث.
ولو توقَّفنا أمام المشهد السياسي العربي، لتبيَّنَّا أنّ المشرق العربي يتحوّل شيئاً فشيئاً إلى مختبر لبناء ديناميات جديدة في العلاقات الدولية، مختبر تجرّب فيه تقنيات الحرب الجديدة المتمثلة بإرهاب الشبكات، حيث يجري التنافس بين قوى إقليمية ودولية عديدة، لترتيب مواقف وخيارات ومواقع. والإشارة هنا إلى مواقف كلّ من روسيا وتركيا وإيران ودول الاتحاد الأوروبي وأميركا والصين؛ وفي مقابل ذلك، نجد أنّ العرب اختاروا، من دون استثناء، السيولة والتمدُّد بجوار عالمٍ تخترقه أوبئة سياسية فتَّاكَة، عالم أصبح في حاجة إلى كثير من السُّمْك والصَّلابة.
نتبيَّن، في الأمثلة التي ذكرنا، عناصر تحوُّل كثيرة تؤشّر على متغيراتٍ أخرى قادمة، فقد أصبحنا نواجه اليوم سُيُولاً من المواقف والأحداث في أمكنة عديدة، وأصبحت العلاقات الدولية مُوَجَّهَةً بمبادراتٍ متحرّكةٍ ومتناقضة. لقد تحوَّلت المبادئ والقواعد التي بُنِيت خلال عقود القرن الماضي إلى مجرّد إجراءاتٍ تساعد على التحوُّل، فكيف نعود إلى بناء عالمٍ يتمتع بِحَدٍّ أدنى من الصَّلابَة الْمُسَاعِدَة على التركيب والتقعيد؟ عالمٍ يسمح بفهم ما يجري ويملك القدرة على وَقْف مظاهر السيولة الجارفة، بحكم أنّ استمرارها يؤشّر على إمكانية حصول مخاطر لا أحد يستطيع اليوم أن يتكهَّن بالأضرار التي يمكن أن تلحقها بعالمنا.