العراق وصراع الهويات
يمكن أن يتجسّد عنوان كتاب أمين معلوف "الهويات القاتلة" خير تجسيدٍ في عراق ما بعد 2003، فلقد بدا هذا العراق، الذي ولد من رحم احتلال وغزو عسكري نادر في قرن ما بعد الألفية، غريباً متناقضاً، غير معروف الطابع والهوية، بل تحوّل وكأنه كرة نار، تتدحرج من علٍ بقوة مطردة، تحرق نفسها وكل من مرّت به أو لامسته من قريب أو بعيد، حتى كاد هذا الإقليم المتفجر أصلا، أن يدمر نفسه، بعوامل ذاتية، قبل أن تكون خارجية، فانتشرت لوثة الهوية من عراق ما بعد 2003 إلى دولٍ أخرى، لولا أن أدركت بعض أطراف اللعبة أن ما تقوم به من فعل متفجّر للهوية، قد يؤدّي إلى تفجر نيران أخرى في المنطقة، تحرق ما بقي من يابسها. في عراق ما بعد 2003، برز سؤال الهوية فاقعاً صارخا، فأي عراقٍ هذا الذي ينتمي إليه العراقي؟ وسط هويات فرعية تتصارع، كلٌّ يدّعي أهليته بانتماء العراق إليه وليس العكس، لتمضي سُنة التغيير القسري، وتصل إلى دفّة أول سلطةٍ شكلها الاحتلال لحكم العراق؛ مجلس الحكم الانتقالي، والتي قُسّمت على 25 عضواً يمثلون مكونات الشعب العراقي، ليبدأ العراقي التعرّف على هوياته الفرعية التي ظلت، عقودا، كامنة تحت سلطة الدولة القوية.
لم يكن العراق، منذ تأسيس أول أشكال الحكم الحديث فيه عام 1921، سوى عراق عربي، وهذا في التعريف العرقي. مسلم، وهذا في تحديد الهوية الدينية، وما بينهما تتجذّر في العراق هويات فرعية أخرى. وليس العراق بدعاً بين الدول التي تشكلت جغرافيتها منذ أكثر من مائة عام، غير أن هذا العراق لم ينجح، وطوال هذه المائة عام، في تجذير هويته الوطنية، على غرار ما حصل في إيران أو تركيا المجاورتين، على سبيل المثال.
كان للاحتلال الأميركي فعل الرصاصة القاتلة على ما بقي من هوية عراقية جامعة
لعل أول من شعر بخطورة هذه الهويات الفرعية القابلة للتفجر كان الملك فيصل الأول. تحدّث، في إحدى رسائله، عن عراقات مختلفة، وإن كان الأمر لا يعني عراق ما بعد نهاية حقبة الدولة العثمانية، فحال غالبية الدول التي تشكلت عقب الحرب العالمية الأولى متشابه، إلا أن ما جرى في العراق منذ تأسيس دولته الوطنية هو فشل متتابع لأنظمةٍ كثيرة في تعزيز هوية وطنية جامعة. ولعل مردّ ذلك أيضا أن العراق هو الأقل استقراراً بين دول المنطقة، ما جعله عرضة لتهديداتٍ قد تكون حالت بين تلك الأنظمة والعمل على تجسيد هويةٍ وطنيةٍ جامعة. ولعلنا هنا نستذكر جانباً من المحاولات التي سعى إليها النظام الملكي في العراق، قبل أن تطيحه ثورة تموز عام 1958، وما تبعها من دخول العراق في متاهات الصراعات بين عسكره، وصولاً إلى حرب الأكراد منتصف سبعينات القرن الماضي، ثم حرب إيران، وبعدها احتلال الكويت والحصار، وصولاً إلى الاحتلال الأميركي، وتدمير ما بقي من نواة وطنية جامعة، كان يمكن أن يُبنى عليها لو قيض لهذا البلد نظامٌ يسعى إلى ذلك.
كان للاحتلال الأميركي فعل الرصاصة القاتلة على ما بقي من هوية عراقية جامعة، فقد بدأ المحتل مسيرته بتقسيم العراق إلى أعراق وطوائف، وعلى أساسها شكل أول مجلس للحكم الانتقالي، حينها بدأ العراقي يتعرّف أكثر فأكثر على هويته الفرعية التي سبق أن تعرّف عليها، وإنْ باستحياء، خلال حرب إيران، وقبلها حرب الأكراد، وبعدهما حرب تحرير الكويت والحصار، يوم أن كانت الدولة موجودة وقادرة على أن تضبط إيقاع الهويات.
أسهم انهيار الدولة العراقية وضعف مفاصلها في دفع العراقيين للبحث عن هوياتهم الفرعية
انهيار الدولة في العراق عقب 2003، وتفلّت الهويات من عقالها، لم يكن فعلاً عراقياً خالصاً، فقد أسهمت فيه عوامل عدة، لعل من أولها سلطة الاحتلال، وليس آخرها تدخلات الدول الإقليمية التي كانت ترى العراق بعين مصالحها، لتجد الدولة الأكثر قدرةً على اللعب بملف الهوية، نفسها مسيطرة غالبة على العراق بعد نحو 18 عاماً من احتلاله. وهنا يشار إلى إيران التي أدركت أن قوة نفوذها في عراق ما بعد 2003 تُستمد من قوة تغلغلها داخل الهوية الطائفية التي وجدت، هي الأخرى، متنفساً لها بوجود دولة راعية.
أسهم انهيار الدولة العراقية وضعف مفاصلها التي تشكلت عقب الاحتلال، وضعف قوة القانون وانتشار المليشيات المسلحة بمختلف هوياتها، في دفع العراقيين للبحث عن هوياتهم الفرعية، ليس فقط لتوفير الحماية لهم، وإنما من أجل البحث عن خيمةٍ هوياتيةٍ للارتماء بأحضانها، ما أفرز عراقاً بلا هوية.
بات البحث عن هوية وطنية في العراق ليس من فعل السلطة بقدر ما هو فعل شعبي
اليوم؛ ونحن على أعتاب العام التاسع عشر على احتلال العراق وتفكّك دولته، لا يبدو أن البلد قد تعافى من هوس التفكك الهوياتي، فعلى الرغم مما أحدثته ثورة تشرين من توافق شعبي على تجديد الهوية الوطنية، إلا أنها لم تبرح الساحات والميادين، من دون أن يكون لها فعل على أرض الواقع، ولكنها مع ذلك أثبتت للجميع أن العراقيين تواقون، أكثر من أي وقت مضى، لتشكيل هويتهم الوطنية. بات البحث عن هوية وطنية في العراق ليس من فعل السلطة بقدر ما هو فعل شعبي، ما يعني أنها يمكن أن تكون أقدر على الثبوت والتخلص من إرث الصراع الهوياتي، فقط لو أتيح لها الفرصة لرعاية مؤسساتية.
الدفع باتجاه تشكيل الهوية الوطنية لا ينبغي أن يقتصر على الجمهور الذي بات يرى فيها خلاصا له من تدخلات الأطراف الخارجية، وإنما يجب أن تكون هم أي حكومة عراقية تسعى فعلاً إلى إخراج العراق من أتون لعنة الهويات القاتلة التي استنزفت كثيرا من الدم العراقي طوال سنوات خلت.