العراق والعدوان على غزّة... أيّ موقف؟
منذ اللحظة الأولى للعدوان الإسرائيلي الهمجي والوحشي على غزّة، كان العراق حاضرا في أتون هذا الصراع، وبعيدا عن التظاهرات المؤيدة لغزّة والمندّدة بالعدوان، كان هناك عراق آخر يحضر وبقوة في هذا الصراع، ليس العراق الرسمي الذي بدا موقفه متماهيا مع الموقف العربي الرسمي الخجول من التعامل مع هذا العدوان، وإنما، على وجه التحديد، الفصائل العراقية المسلحة والتي تُعرف بالولائية، في تعبيرٍ عن ولائها للولي الفقيه الإيراني، هذه الفصائل التي تشكّل، في أغلبها، الحشد الشعبي العراقي، وهو جهة عسكرية مشرعة بقانون عام 2016، ويفترض أنها تابعة لرئيس الحكومة مباشرة، غير أن الواقع يؤكّد أنها هي التي تقود الدولة، وأن رئيس الوزراء موظّف بدرجة مدير عام لا أكثر، فهي أكبر من الدولة.
أعلنت هذه الفصائل مباشرةً عن تشكيل ما تُعرف بالمقاومة الإسلامية في العراق، وهدّدت، منذ الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي، بالدخول إلى المعركة، وتوعّدت بقصف المصالح الأميركية في العراق، ثم تطوّر الخطاب إلى التهديد بقصف المصالح الأميركية في العراق والمنطقة، وصولا إلى الحديث عن تشكيل المقاومة الإسلامية في العراق وسورية، والذي جاء قبيل الخطاب الطويل والمملّ لأمين عام حزب الله، حسن نصر الله، والذي أشاد بهذه المقاومة العراقية التي أعلنت عن نفسها، وما هي إلا فصائل الحشد الشعبي في العراق، ولأنها تخشى أن تطاولها اليد الأميركية بالقصف، فإنها دائما ما تلجأ إلى مثل هذه الحيل، من خلال تشكيلاتٍ بأسماء وهمية، علما أن الجميع يعرف عائدية هذه المقاومة لمن.
تعرف الحكومة العراقية أن أي خروج عن قواعد التعامل مع القواعد الأميركية في البلاد من المليشيات والفصائل سيؤدّي إلى فقدانها الدعم الأميركي
نفذت هذه "المقاومة" عمليات استهدفت فيها قاعدة عين الأسد في غرب العراق التي تضم مستشارين أميركيين وقاعدة العمر في سورية وقاعدة حرير قرب مطار أربيل في شمال العراق. وأعلنت، في بيانات أخرى، أنها استهدفت إيلات في إسرائيل، من دون التأكد من ذلك. في المقابل، تعرف الحكومة العراقية جيدا أن أي خروج عن قواعد التعامل مع القواعد الأميركية في العراق من هذه المليشيات والفصائل سيؤدّي، في النهاية، إلى فقدانها الدعم الأميركي. وعندما نتحدّث عن فقدان الدعم الأميركي، فإن ذلك يعني الكثير، ولعل أول ما يعنيه فقدان التمويل الذي يأتي شهريا من الفيدرالي الأميركي للعراق على شكل دفعاتٍ نقديةٍ من حساب العراق هنا، والذي تُحاول واشنطن، منذ قرابة العامين، التحكّم في مساره بغية منع تسرّب الدولار إلى إيران.
في الأيام الأولى للعدوان الإسرائيلي على غزّة، خرج مقتدى الصدر، الزعيم الشيعي الذي يعارض حكومة الإطار التنسيقي التي شكلتها الفصائل المسلحة في العراق، ودعا إلى إغلاق السفارة الأميركية في بغداد، لأن الولايات المتحدة شريك رئيسي في العدوان على غزّة، فماذا كان ردّ الفصائل المسلحة عبر أذرعها السياسية التي تشكّل الحكومة العراقية على مثل هذا المقترح؟ عارضته وبشدة، وزعم أحدهم أن هذا المطلب من الصدر مفخّخ كونه يريد أن ينفرد بهم ليذبحهم في المنطقة الخضراء، عقب الانسحاب الأميركي، فيما راح آخرون يتحدّثون عن كارثية هذا الطلب، وما يمكن أن يجرّه على العراق من فقدان السيولة المالية وفقدان الدعم للحكومة وغيرها من كوارث لا عدّ لها ولا حصر. علما أن هذه الفصائل، عندما كانت في صف المعارضة إبان حكومة مصطفى الكاظمي السابقة، صوّتت في البرلمان على طلب إخراج القوات الأميركية من العراق، وكانت تقصف بشكل شبه يومي محيط السفارة الأميركية في بغداد، بل وصل الأمر إلى أن هذه الفصائل تظاهرت وهدّدت بحمل السلاح ضد حكومة الكاظمي، بعدما تمكّنت القوات الأمنية من اعتقال مجموعة من العناصر كانت تحضّر لاستهداف مقرّ السفارة الأميركية في بغداد.
من غير المستبعد أن تنفذ الفصائل العراقية المسلحة عملياتٍ ضد مصالح قد لا تكون أميركية
تدرك الحكومة العراقية، برئاسة محمد شياع السوداني، جيدا أنها بين المطرقة الإيرانية التي تحاول أن تزجّ العراق، عبر فصائله المسلحة في الصراع، ولو بقدر معين، والسندان الأميركي، فهي لا تقوى على أي عقوباتٍ قد تتعرّض لها من واشنطن، وفي الوقت نفسه، هي حريصة على أن تكون مع طهران في خطّها المعارض للحرب على غزّة، على اعتبار أن العراق جزءٌ من محور المقاومة. من هنا، تكمن صعوبة مهمّة السوداني الذي سمع كلاما صريحا من واشنطن بأن أي تعرّض للقوات الأميركية والسفارة والمصالح الأخرى في العراق قد يؤدّي إلى إغلاق السفارة مع كل ما يترتب على ذلك. في تهديد يبدو أنه وصل إلى طهران، التي وإن بدت حريصة على دفع فصائل العراق إلى خط المواجهة، إلا أنها، في الوقت ذاته، حريصةٌ على عدم المسّ باستقرار العراق، كونه يعود عليها بمنافع اقتصادية وسياسية كانت، إلى وقت قريب، أشبه بالحلم.
من غير المستبعد أن تنفذ الفصائل العراقية المسلحة عملياتٍ ضد مصالح، قد لا تكون أميركية، وإنما ضد دول تعتقد تلك الفصائل أنها مشاركة في العدوان على غزّة، حتى وإن كانت عربية، وذلك لتسجيل موقف، وأيضا محاولة ضغط إيرانية على تلك الدول، من أجل التدخّل لمنع اتساع الحرب في غزّة.
اختارت إيران، ومعها حزب الله، الساحة العراقية، كما اليمنية، لتكون ميدان التصعيد المطلوب في المرحلة الراهنة، بعدما نأت طهران والضاحية الجنوبية بنفسيهما عن التدخّل في ردع العدوان الإسرائيلي على غزّة، خصوصا بعد خطاب نصر الله الذي اعتبر أن ساحة جنوب لبنان ساحة تضامن مع غزّة. وبسبب تعقيدات الساحة العراقية وتداخلها، فإن الحسابات على الورق قد لا تجد طريق ترجمتها إلى الأرض، وخطأ بسيط في بعض تلك الحسابات قد يوسّع دائرة الصراع، ويفتح جبهاتٍ وليس جبهة واحدة، لا يرغب بها الجميع.