العراق... البسيط حدّ التعقيد

21 مايو 2024
+ الخط -

تجتهد دراساتٌ كثيرة تقف وراءها مراكز بحثية مُتخصّصة، وباحثون مجتهدون، من أجل فهم ما أصبح يُعرف بالقضية العراقية، وهي قضية كثيراً ما يراها باحثون معقّدة جدّاً، في حين يراها آخرون تشبه قضايا أيّ دولة من دول ما بعد الحرب العالمية الأولى، سواء في الشرق أو في الغرب. وما بين هذا وذاك، يبقى الحديث عن العراق، الجغرافيا والتاريخ، ذا شجون، وقابلاً للانفتاح على قراءاتٍ كثيرة قد لا تقتصر على واقعه فقط، وإنّما تمتدّ إلى رقعة جغرافية أوسع، وهو ما يجعل المُهمّة البحثية في واقع هذا البلد ذات جدوى متعدّدة.
في حديثه لبودكاست "بدون ورق"، حاول الباحث حيدر سعيد أن يشرح العراق، القضية والأزمة والواقع، بمنظور الباحث المُتبحّر في تاريخ هذا البلد ووثائقه. وعلى مدى ساعتين وأكثر، قدّم سعيد درساً بحثياً، نظرياً وتاريخياً، في طبيعة العراق، من لحظة تشكّل الدولة العراقية الحديثة، وما قبلها، وصولاً إلى اليوم، وما يعيشه البلد من أزمات تُولَدُ في بطن أزمات، وما يسبّبه ذلك من إرباك لواقعه ومحيطه.
وبتقدير كاتب هذه السطور، نجح سعيد، إلى حدّ كبيرٍ، في محاولة تلخيص الأزمة العراقية أو القضية العراقية، اختر منها ما شئت، خصوصاً أنّه تحدّث بوثائقية يُحسد عليها، وكان قادراً على الربط بين الأحداث بطريقة الباحث المُتمكّن. ناهيك، طبعاً، عما أثاره من قضايا تستحقّ الوقوف عندها بالنقاش والتوضيح والتحليل، وحتّى بالتساؤل. وهناك كثير ممّا كان يجب أن يقال في هذه المقابلة، ولم يكن السبب في عدم الحديث عنه عدم رغبة حيدر سعيد، وإنّما ضعف الإعداد لمثل هذه الحوارات التوثيقية، وهي أزمةٌ يعاني منها عالم البودكاست في عالمنا العربي بشكل عام، فليس كافياً أن تكون باحثاً جيداً حتّى تكون معدّاً ناجحاً في هذا الفضاء الرقمي. وأيضاً، ليس بالضرورة أن تكون معدّاً جيّداً حتّى تكون باحثاً ملمّاً في مجالٍ ما، وهي، بحسب متابعة حلقات مختلفة من برامج البودكاست، تبقى معضلةً بحاجة إلى حلّ، وهو ما دفع محطّات متخصّصة في برامج البودكاست إلى الاستعانة بمقدّمين مختلفين بحسب طبيعة الضيف، وهو أمر، وإن كان مُهمّاً، إلا أنّه بتقدير الكاتب، لم تثبت نجاعته، أيضاً.

ليس كافياً أن تكون باحثاً جيداً حتّى تكون معدّاً ناجحاً في هذا الفضاء الرقمي

وبالعودة إلى بودكاست العراق مع سعيد، من القضايا التي طرحها الضيف نفيه أن يكون العراق قد تشكّل على أساس طائفي، وأنّ الشيعة كانوا مُحاربين من النظام السياسي، عقب إعلان المَلَكيّة العراقية عام 1921، شارحاً ومفصّلاً هذه الفرية، ومن أين انطلقت، متحدّثاً عن نسب رقمية للمشاركة الشيعية في العراق المَلَكي، مشيراً إلى الوثائق عن أنّ أحد أبرز الشعارات التي رفعها النظام المَلَكي، يومها، هو إنصاف الشيعة، على اعتبار ما تعرّضوا له من ظلم من الدولة العثمانية. وهو أمر مُهمّ، ولفتة تستحقّ الوقوف عندها، غير أنّ هناك مسألة ربما مرّ عليها سعيد مروراً سريعاً، وتتعلّق بموقف المرجعية الشيعية من تشكيل النظام السياسي في العراق عقب 1921، إذ تفيد مصادر ووثائق كثيرة بأنّ تلك المرجعيات وقفت بالضدّ من النظام الجديد، بدعوى أنّه نظام شكّلته قوة احتلال، وهي بريطانيا، الأمر الذي منع كثيرين من أبناء الشيعة من الالتحاق بالوظائف العامة، ناهيك، طبعاً، عن المدارس.
وربما يشير علي الوردي إلى أنّ أحد أهم أسباب وقوف المرجعيات الشيعية موقفاً مناهضاً للنظام السياسي الجديد، الذي تشكّل عام 1921، خشية هذه المرجعيات من فقدانها امتيازاتٍ كثيرة كانت تتوافر لها نتيجة شعور الناس بالانتماء إلى المرجعية وأخذها التعاليم منها، فضلاً عن الخشية من اندماج الشيعة في الدولة الجديدة، وربما دفع الضرائب، لاحقاً، لهذه الدولة، وفقدان أحد أهم موارد المرجعية، وتحديداً الخُمْس، الذي يدفعه عامّة الشيعة للمرجعيات. ولعلّ دور حيدر رستم، اللبناني، الذي كان يعمل مستشاراً لدى الملك فيصل، تبقى من القصص التي كان لا بدّ من الوقوف عندها مطوّلاً، خصوصاً أنّه اتُّهم بأنّه يعمل على محاباة الشيعة، وكان يعمل، حتّى خارج الأطر القانونية في هذا الموضوع، ونقمة النخب السنّية عليه، فهل كان دور حيدر رستم ذاتياً، أم كان مدفوعاً من طرف ما؟

للعراق خصوصية كبيرة، فهو بلد موارد طبيعية، وبلد العنصر البشري، وبلد زراعي

وربّما من الأمور التي كانت تستحقّ الوقوف عندها هي قراءة مجملة لكلّ ما مرّ على العراق، خلال القرن المنصرم، لأنّ للعراق، في النهاية، خصوصية كبيرة، فهو بلد موارد طبيعية، وبلد العنصر البشري، وبلد زراعي، بالتالي، هل كان لهذه الموارد علاقة بما تعرّض له؟ بمعنى هل يمكن استبعاد نظرية المؤامرة ممّا تعرّض له العراق؟ خاصّة أنّ بعض المفاصل تستدعي وقفة بحثية أعمق، مثل الانقلاب على النظام المَلَكي، الذي كان برعاية بريطانية، هل سمحت به بريطانيا؟ في حين أنّ هذا النظام كان يمكن أن يسقط عام 1941 عقب ثورة مايس (ثورة رشيد عالي الكيلاني)، غير أنّ التدخّل البريطاني العنيف ضدّ الثورة وضبّاطها حال دون ذلك، مع التذكير، طبعاً، بأنّ الثورة يومها لم تكن موجّهة ضدّ النظام المَلَكي، وإنّما ضدّ بريطانيا، ولكنّ غالبية الرؤوس الفاعلة في النظام المَلَكي، ومنهم الوصي عبد الإله، غادروا العراق يومها. وربما مما كان يجب أن يقال هو أنّ حقبة ما بعد 2003، بتقدير كاتب هذه السطور، لم تنلْ حظّاً من حديث حيدر سعيد، وهي حقبة أخرى ما زالت ملامحها تتشكّل، ولكن كان من المُهمّ قراءة مستقبل هذه الحقبة، ونظامها السياسي، لما لذلك من تداعيات، سواء على واقع العراق أو المنطقة.
يبقى العراق بسيطاً شديدَ التعقيد. صحيحٌ أنّ ما جرى لهذا البلد، خلال القرن المنصرم، نتيجة طبيعية لحركة التاريخ والأحداث، غيرَ أنّ بواطن الأمور تبقى أعقد بكثير من ظاهرها، فهناك خيوطٌ تدفع لبحث أعمق وأشمل، وتستدعي حلقاتٍ أكثف وأطول مع حيدر سعيد، وغيره من الباحثين، الذين غاصوا في تاريخ هذا البلد المُؤثّر والمُتأثّر.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...