العدالة الدولية تُنصف غزّة
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية
تابع آلافٌ (بل أكاد أجزم أنهم ملايين) القرار الذي أصدرته محكمة العدل الدولية بعد انتظار نحو أسبوعين. كانت كل الأنظار والقلوب والآمال معلقة على هذا الحدث المهم الذي كان لدولة جنوب أفريقيا الفضل في إثارته وتأثيثه بعنايةٍ وحرفيةٍ واقتدارٍ ورباطة جأش وبأس ما اعتدنا لها مثيلاً لدى دولنا الموقّرة، فقد تمكّنت جنوب أفريقيا من زجّ الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية ليُقاضى ويُحاكَم بالاستناد الى اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، منهية بذلك حقبة طويلة من الإفلات من العقاب والمحاسبة ومن التملّص من جميع الالتزامات الدولية للكيان الصهيوني.
أعاد هذا القرار، الذي صدر يوم 26 يناير/ كانون الثاني الحالي، الأمل والإيمان بوجود عدالة دولية تنصف المظلومين وتدين الجناة، وتعيد الحقوق الى أصحابها وتمنح الشعب الفلسطيني بارقة أمل بوقف العدوان وأعمال الإبادة الموصوفة، التي يمارسها جيش الاحتلال عليه منذ أكثر من مائة يوم. تلت رئيسة المحكمة القرار بوضوحٍ لا لبس فيه مقرّة اختصاص المحكمة للنظر في القضية، ومعترفة ضمناً بوجود شبهة إبادة جماعية، استنادا إلى تقارير وتصريحات متواترة وموثوق بها صادرة عن هيئات أممية ودولية، وبالاعتماد على تصريحات مشينة وصادمة لقادة ومسؤولين إسرائيليين تشي بنيّة الإبادة والتهجير والتجويع والقضاء على كل مقوّمات الحياة والنجاة من آلة الحرب الجهنمية والفتاكة للكيان الغاصب، وأقرّت بضرورة توفير حماية للفلسطينيين في قطاع غزّة عبر اتخاذ تدابير مؤقتة، لا سيّما في ظل تواصل الأعمال العدوانية الإسرائيلية والوضع المأساوي، الذي تدلّل عليه كل البراهين والأدلة الدامغة التي تقدّم بها الفريق القانوني لجنوب أفريقيا، والتي لا تدع مجالاً للشك بأن الأركان المكوّنة لجريمة الإبادة الجماعية من نية إجرامية وأفعال إبادية متوافرة، فعلى إسرائيل وقف كل الأفعال التي تسبّب أضرارا بدنية ونفسية للفلسطينيين في غزّة، واتّخاذ كل الإجراءات لمنع الإبادة الجماعية والتحريض المباشر عليها، ولتجنّب القتل والاعتداء والتدمير بحقّ سكان غزّة، مع ضمان توفير الاحتياجات الإنسانية الملحّة في القطاع بشكل فوري، كما على دولة الاحتلال رفع تقرير إلى المحكمة في غضون شهر بشأن التدابير المؤقتة، والتأكّد فورا من أن جيشها لا يرتكب الانتهاكات المذكورة.
استمعنا إلى المحكمة بامتنان في زمن تلاشت فيه أطواق النجاة للشعب الفلسطيني الذي يواجه الهلاك والفناء أعزل، إذ تكمن أهمية هذا القرار في رد الاعتبار لتضحيات هذا الشعب ولدماء الشهداء وللصبر الأسطوري الذي برهن عليه، ليظلّ على أرضه وليرفض كل أشكال التهجير. كما تكمن أهميّته في الاعتراف بأن للضعفاء والمستضعفين عدالة تنصفهم، حين يتنكّر لهم الجميع، وذلك بمقتضى القانون الدولي الذي سهرت المحكمةُ على تطبيقه بموضوعيةٍ وحياد واستقلاليةٍ، وبمنأى عن الضغوط السياسية والاعتبارات الأيديولوجية والاستراتيجية، فكانت جديرة بالمقام الذي تحظى به بوصفها أعلى محكمة دولية، وبكونها الهيكل القضائي الأساسي لمنظمّة الأمم المتحدة، وأثلجت صدور الملايين، وأفحمت المشكّكين والمناوئين بقوة قرارها الذي يقرّ بمظلومية الشعب الفلسطيني، وبحقّه في الحياة على أٍرضه، وفقا للشرعية الدولية ولمنظومة حقوق الإنسان.
لن تفلح الولايات المتحدة في التقليل من شأن القرار وآثاره وأسسه القانونية، لأن المحكمة تضم قضاة ذوي كفاءة عالية
تكمن أهمية هذا القرار أيضاً من الناحية القانونية في أنه سيُعتمد سنداً قانونياً مهما في الدعاوى والملفات المرفوعة أمام محكمة الجنايات الدولية، باعتباره يتضمّن إقرارا ضمنيا بشبهة ارتكاب جرائم حرب، ويستدعي تدخل هذه المحكمة لتتبّع مجرمي الحرب ومعاقبتهم، والحيلولة دون إفلاتهم من العقاب عملاً بمبادئ المسؤولية الجزائية الدولية. ومن الناحية السياسية، سيفاقم العزلة الدولية التي يتخبّط فيها الكيان الصهيوني وشريكته في جرائم الحرب، الولايات المتحدة، فكلاهما مارقان عن القانون الدولي وخارجان عن الشرعية الدولية بتغطيتهما على ارتكاب جرائم إبادة جماعية، وبتوفير كل السبل والذرائع لتنفيذها، وهي الجرائم الأكثر بشاعة وخرقا للقانون الدولي الإنساني، ولا تسقط بمرور الزمن، وستظل تتابع مرتكبيها وتقضّ مضاجعهم مهما طال الزمن وأينما حلّوا. ولن تفلح دولة الاحتلال في ترويج معاداة المحكمة الدولية السامية، لأنها تهم واهية وخالية من المنطق السليم، ولا تنطلي على ذوي الألباب. ولن تفلح الولايات المتحدة في التقليل من شأن القرار وآثاره وأسسه القانونية، لأن المحكمة تضم قضاة ذوي كفاءة عالية، ويمثلون أهم النظم القانونية ومشهود لهم بالحياد والاستقلالية، ودفاع الولايات المتحدة المستميت عن الكيان الصهيوني سيتحوّل تدريجيا إلى لعنةٍ عليها، لأنه دفاع مهزوز منزوع الأخلاق والضمير.
ولئن كنّا نعلم أن التدابير التي اتخذتها المحكمة لحماية الشعب الفلسطيني، رغم طابعها الإلزامي، ستبقى حبراً على ورق ولن تنفذ، نظرا إلى عنجهية الكيان الصهيوني، فهو يعتبر نفسه فوق المحاسبة والإدانة، ونظرا إلى تواطؤ الولايات المتحدة التي ستستخدم حتما حقّ الفيتو داخل مجلس الأمن للحيلولة دون تطبيق هذه التدابير ودخولها حيز التنفيذ، إن جرى اللجوء إلى هذا الهيكل لضمان فاعلية هذه التدابير، وترتيب نتائج لها على أرض الواقع، فإن لهذا القرار قيمة اعتبارية ومعنوية وقانونية عظمى، لأنه يؤسّس للمحاسبة والإدانة لمرتكبي جرائم الحرب من دول وأفراد باختلاف انتماءاتهم العرقية والدينية والوطنية، إنها صورة إسرائيل وسمعتها لدى المجتمع الدولي التي اهتزت وتزعزعت بفعل الإدانة غير المباشرة لها عبر الإقرار بالتدابير الاحترازية، كما أن المجتمع الدولي سيكون مطالباً أخلاقيا ببذل قصارى جهده لإلزام دولة الاحتلال بوقف أعمال الإبادة الجماعية وإمداد الشعب الفلسطيني في غزّة بالمساعدات الإنسانية والطبّية الضرورية، وممارسة كل أشكال الضغط عليها لإنفاذ القرار القضائي.
يتعيّن توظيف القرار الاستعجالي لمحكمة العدل الدولية، الذي أنصف فلسطين ونصر غزّة وأعلى كلمة الحق والعدالة، لمزيد من كسب التأييد للقضية الفلسطينية دولياً
وفي انتظار أن تُصدر محكمة العدل الدولية قرارها النهائي بثبوت ارتكاب إسرائيل جرائم إبادة جماعية، وهو أمرٌ يكاد يكون محسوماً بالنظر إلى إقرار المحكمة بحجيّة البراهين وصدقية الأدلة التي قدّمت لإقامة الدليل على وجود أعمال إبادية عن سابق إضمار وتدبير، فإنه يتعيّن توظيف هذا القرار الاستعجالي، الذي أنصف فلسطين ونصر غزّة وأعلى كلمة الحق والعدالة، لمزيد من كسب التأييد للقضية الفلسطينية دوليا عبر القنوات الدبلوماسية، وعن طريق الهيئات والمنظمات الدولية التي ستظفر بقرار قضائي على غاية الأهمية لدعم مطالبها بوقف العدوان الصهيوني، ولعلّ موقف الجزائر يصب في هذا السياق، حيث تقدّمت بعثتها في الأمم المتحدة بطلب عقد اجتماع لمجلس الأمن قصد "إعطاء صيغة تنفيذية" لقرارات المحكمة المفروضة على إسرائيل.
وتهدف هذه المساعي إلى الكشف عن الوجه الحقيقي للكيان المحتل، وجه لطالما زيّنته مساحيق المظلومية والدفاع عن الوجود وقناع الدولة الديمقراطية والجيش الأكثر أخلاقية والتشدّق بمقاومة الإرهاب ودحره نيابة عن المجتمع الدولي، في حين غابت السردية الحقيقية لشعب مقهور يرزح تحت احتلال استيطاني قمعي، ويحرم من حقه في تقرير مصيره، وتوصم حركات التحرّر الوطني التي لا تزال صامدة وباسلة بالإرهابية، وتجرى شيطنتها وإدانتها دوليا. والحال أن الأمم المتحدة أقرّت منذ 1965 حقّ الشعوب في التصدّي لقمع سلطات دولة الاحتلال، واعتبرت ضمناً أنهم في حالة دفاع شرعي عن وجودهم، بل دعت الدول إلى توفير المساعدة المادية والمعنوية لحركات التحرّر الوطني لممارسة هذا الحقّ في النضال ضد المحتل بكل الوسائل الممكنة، بما فيها اللجوء الى الكفاح المسلح. وأقرّ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 2649 هذا الحقّ صراحة للشعب الفلسطيني.
العدالة الدولية رافدٌ أساسيٌّ لإقرار حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، فالحقُّ يعلو ولا يُعلى عليه
هل يمثل حل الدولتين الذي تسوقّه الولايات المتحدة وغيرها من شركائها الغربيين والعرب وترفضه إسرائيل ممثلة في شخص رئيس وزرائها، فعليا، حلّا آمنا وتتويجا لممارسة هذا الحق في التحرر؟ لا ريب أن وهم حلّ الدولتين أضحى خياليا وغير واقعي، بل أضحى يتنّزل في سياق سياسات التضليل والمماطلة والمخاتلة التي تنتهجها الولايات المتحدة، وقد بيّنت الوقائع أن كيانا مجرما لا يعترف بالوجود الفلسطيني لا يمكن أن يرضى بإقامة دولتين، ولن تتعايشا، حتى وإن وجدتا فعليا، وهو أمرٌ لم يتحقق منذ عقود، رغم اتفاقيات السلام وموجات التطبيع، لأن عقودا من التنكيل والقهر والتقتيل والتوسع الاستيطاني لن تُمحى من ذاكرة الشعوب، ولن يكون هناك مجال للمصالحة والتعايش السلمي، حتى في ظل دولتين منفصلتين، فالطبيعة العدوانية والتوسّعية للكيان السرطاني ستُلازمه باعتبارها ركناً أساسيا لوجوده، بالإضافة إلى ضرورة عدم التغافل عن حقّ العودة للفلسطينيين الذين هجّروا من ديارهم وأراضيهم منذ 1948، وهو حقٌّ ضمنته الأمم المتحدة في قرار الجمعية العامة عدد 194 في 11 ديسمبر/ كانون الأول 1948 المعروف بقانون العودة، وأقرّته مجدّدا في 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022، معتبرة أن للاجئين الفلسطينيين الحقّ في حماية ممتلكاتهم والإيرادات الآتية منها وفقا لمبادئ الإنصاف والعدل. ولا يمكن، في أي حال، إقرار تسوية عادلة للقضية الفلسطينية من دون تنزيل هذا الحقّ على أرض الواقع، واعتباره حقا مطلقا وغير قابل للتفاوض والمقايضة، فهل ستقبل سلطة الاحتلال بحقّ العودة، وهي التي أنكرت على الشعب الفلسطيني أبسط حقوقه؟
لذلك لن ينتظر الشعب الفلسطيني منّة أو فضلا من إسرائيل أو من شريكتها أميركا، فالحقوق لا تمنح، بل تؤخذ عنوة إما بقوة القانون أو بقوة السلاح أو بحشد المناصرين والداعمين، كل السبل مباحة لنيل الحرية والاستقلال، والعدالة الدولية رافدٌ أساسيٌّ لإقرار حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، فالحقُّ يعلو ولا يُعلى عليه، والمُثل ليست دائما سوريالية وميتافيزيقية، بل يمكن أن تكون حقيقية ملموسة، إذ إن ما فعلته محكمة العدل الدولية بطلبٍ من دولة جنوب أفريقيا دليل قاطع على ذلك، وسيكون بداية لنهاية كيانٍ مغتصب، بفضل قوة القانون وبصمود الشعب الفلسطيني ومركزية قضيته الإنسانية وباستبسال مقاومته، وبوجود أحرار ذوي شهامة ونبل لا تأخذهم في الحقّ لومة لائم كجنوب أفريقيا.
أستاذة جامعية تونسية في العلوم القانونية والسياسية والعلاقات الأوروبية المغاربية