12 مارس 2022
"العداء لإسرائيل" متكأ للدكتاتوريات
أشاح الانقسام الحاصل بين النخبة العربية حول "استشهاد" سمير القنطار، الغطاء عن مدى قدرة الإيديولوجيا على تعطيل العقل، وعن مدى فاعلية "العداء لإسرائيل" في التغطية على جرائم ارتكبها "مقاومون سابقون"، وما زالت تُرتكب.
إذا كان مفهوماً أن الأنظمة العربية لم تتوقف يوماً عن استخدام فلسطين سلعة ناجحة لتخدير الجماهير، كإحدى أدوات السيطرة، فإن المربك اليوم بقاء نخب كثيرة تدور في فلك التبرير، عبر إنتاج الثقافة التي تحتاجها تلك النظم، ما يعطل تقديم شيء حقيقي ومفيد لقضية فلسطين، إذ إن أول فائدة لقضية ما أن تتوقف المتاجرة باسمها، وأن تكف عن كونها أداة تغسل بها جرائم كثيرة، تبدأ من جرائم الاستبدادات العربية، ولا تنتهي عند جرائم قوى طائفية، تريد أن تعمد يديها المغمسة بدماء السوريين بـ"طهر" فلسطين، وقد علمتنا التجارب أن كل طهر وقداسة في السياسة يخفي نجاسة كثيرة، فكلما كثرت مقدسات السياسة كبر المدنس الذي يُراد لهذا المقدس التغطية عليه.
لا تكمن المشكلة في الأحزاب والقوى الطائفية الضدية التي تستخدم فلسطين سلعة، فالأمر مبرّر في ظل دكتاتوريات (سلطوية وحزبية ومجتمعية) لم تزل تمارس السياسة بأحط أشكالها، متكئة على ثقافة شعبوية مشبعة بفلسطين كأيديولوجيا لا كمعرفة، بل تكمن (المشكلة) في "ثقافة" النخب المقتنعة حقيقة أن موقفها هذا داعم لفلسطين، من دون أي إدراك أن العقلية القائمة هنا ضديّة، أول ما تفعل أنها تدمر قضية فلسطين، وتجعل أمر "تحريرها" بعيد المنال، لأنها تفكر بهذه العقلية الضدية، ليس للتحرير فحسب، بل للحرية أيضاً، ما يجعل منها عائقاً أمام "تحرير فلسطين"، وهي التي تظهّر "نضالها" بأنه "الطريق الوحيد إلى القدس" في مفارقة فاجعة.
أول العطب في هذه "الثقافة" هو "المقدس" الذي ترفعه في وجه كل من يقدم رؤية مغايرة للحدث، إذ ترفع يافطاتٍ من نوع "العدو الإسرائيلي" و"المقاومة" و"قتلته إسرائيل لأنه مقاوم"، لتمنع أي نقد لمقدس المقاومة، أو تفكيكه أو تحليله، لأجل أن يبقى قادراً على تمرير ما يُراد تحت شعاري "تحرير فلسطين" و "العداء لإسرائيل". وعليه، يصبح أي مرتزق يقاتل في سورية "شهيداً ومقدسا" فقط لأن إسرائيل قتلته. ماذا لو قتلت إسرائيل غدا عناصر من داعش، فهل يصبح هؤلاء شهداء؟ وماذا لو قتلت إسرائيل غداً من اقتلع أظافر أطفال في درعا، عاطف نجيب، أو أي جلاد في السجون السورية، هل يصبح شهيداً؟
يأتي العطب الثاني استمراراً للأول، فلمَ يراد للمقاومة أن تبقى خارج النقد هنا؟ لكي تؤتي فعلها
في التخدير والتجيير، إذ يجري العمل على إحلال أولوية المقاومة والإرهاب، بدلاً من أولوية الحرية والديمقراطية. وهذا أمر ممنهج، ويجري العمل له على قدم وساق، على عكس ما يظن كثيرون، فمقتل القنطار (وقبله كان عماد مغنية) سيجري استثماره إعلامياً على أفضل وجه، بهدف توجيه الجمهور نحو "العداء لإسرائيل" الذي يراد منه، هنا، أن يكون تغطية للاستبداد، وإبعادا لأولوية الحرية لا غير، إنقاذاً للنظام السوري، وهو ما ساهمت فيه عملياً (في السابق) المشاهد الاحتفائية بمقتل مغنية التي أريد بها طمس شعارات ثورة الاستقلال اللبنانية، لصالح "العداء لإسرائيل"، أي إبقاء التحرّر ضد الحرية.
يتعلق العطب الثالث بمسار قضية فلسطين، وسط تفكك دول كثيرة في العالم العربي، إذ على الرغم من تفكك العراق وسورية واليمن وليبيا ولبنان، ما زال هذا العقل يفكر بالآلية نفسها، من دون أن يسأل نفسه: لم تفككت هذه الدول؟ وهل تفككت بفعل الاستبداد الذي تدعمه "مقاومات" اليوم، أم بفعل إسرائيل، أم بفعل الطرفين معا؟
لا تزال فلسطين "مقدساً" في ذهن تلك النخبة أكثر من سورية والعراق ولبنان وليبيا واليمن، إذ يغدو الأمر مفارقاً وكارثياً، وكأن هذه البلدان هي درجة ثانية في أذهان هؤلاء الممانعين، إذ يجري التعامل باستخفاف كبير مع تشرد شعوب هذه البلدان التي تقتل كرمى لـ"قضية فلسطين"، فقط لأنها طلبت الحرية ممن يدّعي أنه "يقاتل إسرائيل"، في وقتٍ تنأى فيه فلسطين، يوماً بعد يوم، كلما تفككت هذه الدول. ومن ناحية ثانية، يضمر الأمر نظرة دونية للشعب الفلسطيني نفسه، عبر جعل فلسطين مطلقاً، مقدساً، من دون شعب، فالمفاضلة هنا ليست بين شعوب وشعوب، بل بين وطن فلسطيني بات له صفة الأسطورة (وكل أسطورة تعطل النقد) وأوطان درجة ثانية، في حين أن الشعوب "خارج التغطية" في ذهن هؤلاء، فليتشرد الجميع وتبقى الأوطان التي لا تبقى، بل تتفكك، وتدخل أفق التدمير في مفارقة أخرى، من دون أن يتوقف هؤلاء لإعادة التفكير، وجعل المنطق يمشي على قدميه، بدلا من رأسه. ما يعني أن هؤلاء هم أكثر من يخدم العدو الإسرائيلي في حقيقة الأمر، وأكثر من يجعل "الطريق إلى القدس" طويلاً وبعيداً، فكلما ارتفعت أسوار الاستبداد زاد تفكك البلدان، وزادت فلسطين عرياً وانكشافاً واستباحة.
إذا كان مفهوماً أن الأنظمة العربية لم تتوقف يوماً عن استخدام فلسطين سلعة ناجحة لتخدير الجماهير، كإحدى أدوات السيطرة، فإن المربك اليوم بقاء نخب كثيرة تدور في فلك التبرير، عبر إنتاج الثقافة التي تحتاجها تلك النظم، ما يعطل تقديم شيء حقيقي ومفيد لقضية فلسطين، إذ إن أول فائدة لقضية ما أن تتوقف المتاجرة باسمها، وأن تكف عن كونها أداة تغسل بها جرائم كثيرة، تبدأ من جرائم الاستبدادات العربية، ولا تنتهي عند جرائم قوى طائفية، تريد أن تعمد يديها المغمسة بدماء السوريين بـ"طهر" فلسطين، وقد علمتنا التجارب أن كل طهر وقداسة في السياسة يخفي نجاسة كثيرة، فكلما كثرت مقدسات السياسة كبر المدنس الذي يُراد لهذا المقدس التغطية عليه.
لا تكمن المشكلة في الأحزاب والقوى الطائفية الضدية التي تستخدم فلسطين سلعة، فالأمر مبرّر في ظل دكتاتوريات (سلطوية وحزبية ومجتمعية) لم تزل تمارس السياسة بأحط أشكالها، متكئة على ثقافة شعبوية مشبعة بفلسطين كأيديولوجيا لا كمعرفة، بل تكمن (المشكلة) في "ثقافة" النخب المقتنعة حقيقة أن موقفها هذا داعم لفلسطين، من دون أي إدراك أن العقلية القائمة هنا ضديّة، أول ما تفعل أنها تدمر قضية فلسطين، وتجعل أمر "تحريرها" بعيد المنال، لأنها تفكر بهذه العقلية الضدية، ليس للتحرير فحسب، بل للحرية أيضاً، ما يجعل منها عائقاً أمام "تحرير فلسطين"، وهي التي تظهّر "نضالها" بأنه "الطريق الوحيد إلى القدس" في مفارقة فاجعة.
أول العطب في هذه "الثقافة" هو "المقدس" الذي ترفعه في وجه كل من يقدم رؤية مغايرة للحدث، إذ ترفع يافطاتٍ من نوع "العدو الإسرائيلي" و"المقاومة" و"قتلته إسرائيل لأنه مقاوم"، لتمنع أي نقد لمقدس المقاومة، أو تفكيكه أو تحليله، لأجل أن يبقى قادراً على تمرير ما يُراد تحت شعاري "تحرير فلسطين" و "العداء لإسرائيل". وعليه، يصبح أي مرتزق يقاتل في سورية "شهيداً ومقدسا" فقط لأن إسرائيل قتلته. ماذا لو قتلت إسرائيل غدا عناصر من داعش، فهل يصبح هؤلاء شهداء؟ وماذا لو قتلت إسرائيل غداً من اقتلع أظافر أطفال في درعا، عاطف نجيب، أو أي جلاد في السجون السورية، هل يصبح شهيداً؟
يأتي العطب الثاني استمراراً للأول، فلمَ يراد للمقاومة أن تبقى خارج النقد هنا؟ لكي تؤتي فعلها
يتعلق العطب الثالث بمسار قضية فلسطين، وسط تفكك دول كثيرة في العالم العربي، إذ على الرغم من تفكك العراق وسورية واليمن وليبيا ولبنان، ما زال هذا العقل يفكر بالآلية نفسها، من دون أن يسأل نفسه: لم تفككت هذه الدول؟ وهل تفككت بفعل الاستبداد الذي تدعمه "مقاومات" اليوم، أم بفعل إسرائيل، أم بفعل الطرفين معا؟
لا تزال فلسطين "مقدساً" في ذهن تلك النخبة أكثر من سورية والعراق ولبنان وليبيا واليمن، إذ يغدو الأمر مفارقاً وكارثياً، وكأن هذه البلدان هي درجة ثانية في أذهان هؤلاء الممانعين، إذ يجري التعامل باستخفاف كبير مع تشرد شعوب هذه البلدان التي تقتل كرمى لـ"قضية فلسطين"، فقط لأنها طلبت الحرية ممن يدّعي أنه "يقاتل إسرائيل"، في وقتٍ تنأى فيه فلسطين، يوماً بعد يوم، كلما تفككت هذه الدول. ومن ناحية ثانية، يضمر الأمر نظرة دونية للشعب الفلسطيني نفسه، عبر جعل فلسطين مطلقاً، مقدساً، من دون شعب، فالمفاضلة هنا ليست بين شعوب وشعوب، بل بين وطن فلسطيني بات له صفة الأسطورة (وكل أسطورة تعطل النقد) وأوطان درجة ثانية، في حين أن الشعوب "خارج التغطية" في ذهن هؤلاء، فليتشرد الجميع وتبقى الأوطان التي لا تبقى، بل تتفكك، وتدخل أفق التدمير في مفارقة أخرى، من دون أن يتوقف هؤلاء لإعادة التفكير، وجعل المنطق يمشي على قدميه، بدلا من رأسه. ما يعني أن هؤلاء هم أكثر من يخدم العدو الإسرائيلي في حقيقة الأمر، وأكثر من يجعل "الطريق إلى القدس" طويلاً وبعيداً، فكلما ارتفعت أسوار الاستبداد زاد تفكك البلدان، وزادت فلسطين عرياً وانكشافاً واستباحة.