الظواهري .. مقتل جثة متحرّكة
لم يعد مهما السؤال عن مصير تنظيم القاعدة بعد اغتيال زعيمه أيمن الظواهري، رغم أن الرجل أدارالتنظيم وتحكّم بتفاعلاته وبمفاصله أكثر من عقد، حتى في زمن مؤسسه أسامة بن لادن، وذلك ليس لأن هذا النوع من التنظيمات أثبت عدم تأثره برحيل القائد نظراً إلى مرونة هيكليته، بل لأن التنظيم بالأصل بات خارج الفعالية، ولم يعد مؤثراً في الأحداث والتطورات.
وحتى قبل موت أسامة بن لادن، المصنّف الزعيم الأقوى للتنظيم، كان التنظيم يمرّ بفترة انحدار وضعف، نتيجة تضافر عدة عوامل، أمنية ولوجستية وتنظيمية، لكن السبب الأهم تمثل بتشييد بنية أمنية متكاملة، على مستوى العالم، في مواجهة التنظيم، حيث بات تحرّكه ونشاطه في ظل هذه البيئة مستحيلين، ما دفع التنظيم إلى صرف معظم طاقاته في حماية قياداته وكوادره.
صحيحٌ أن تنظيم القاعدة نفّذ، في الظروف الحرجة التي عايشها، بعض الضربات في أمكنة متفرّقة، وخصوصا في أوروبا وآسيا، لكن كان واضحاً أن مفاعيل التنظيم تراجعت إلى حد بعيد، وافتقدت عملياته إلى الإستراتيجية واتضاح الرؤية، وباتت أعماله تعكس حجم التخبّط الذي وصل إليه. وقد شكّل صراع الأجنحة داخل التنظيم سبباً مهما في ضعف أدائه وفعاليته. ومثل باقي التنظيمات الإسلامية، دخل التنظيم بعد رحيل بن لادن في دوامة هذه الصراعات، خصوصا بعد ميل الظواهري إلى مصرنة التنظيم وجعل قياداته الأساسية من التابعية المصرية، وحصر أمر خلافته ضمن هؤلاء، وهو ما دفع كثيرين من كوادره إلى الرحيل أو الابتعاد عن العمل الجهادي نهائياً.
كما كان للاختراقات الأمنية داخل التنظيم دور مهم في إضعاف فعاليته، إذ استطاعت أجهزة أمنية عديدة، إقليمية ودولية، اختراقه والحصول على بيانات عن أسماء الكوادر وجنسياتهم، وأحياناً كثيرة عن خطط التنظيم ووجهة عملياته، الأمر الذي أدى إلى إفشال هذه العمليات، بل وصل الأمر، أحيانا، إلى إعادة بعض الأجهزة الأمنية توظيف كوادر القاعدة بعد تفريغ معلوماتهم باستخدامهم في ساحاتٍ أخرى، مثل الساحة السورية، بصفة مخبرين لتلك الأجهزة.
فقدت فكرة الجهاد العالمي بريقها لصالح نضال الشعوب ضد حكّامها وسعيها إلى التخلص من الفساد والظلم المحيق بها
في ظل هذه المعطيات، شكّلت قيادة الظواهري تنظيم القاعدة مرحلة انتقالية نحو نهاية التنظيم واضمحلاله، حيث زادت قيادته من ضعف التنظيم وتصدّعه، نتيجة ظهور منافسين له، مثل أبو بكر البغدادي، وسحبهم البساط نهائياً من تحت القاعدة، تنظيما متشدّدا صاحب الريادة في الدفاع عن القضايا الإسلامية على المستوى العالمي.
غير أن السبب الذي عجّل في موت "القاعدة" تمثل بالربيع العربي، حيث فقدت فكرة الجهاد العالمي بريقها لصالح نضال الشعوب ضد حكّامها وسعيها إلى التخلص من الفساد والظلم المحيق بها، وهي قضايا أكثر إلحاحاً من مسألة محاربة العالم الخارجي الذي لم يعد عدواً لدى قطاعات كثيرة في العالمين العربي والإسلامي، بل يمكن وصفه بالصديق في ظل الاستقطابات العالمية الجديدة بعد الربيع العربي، والتحالفات التي حصلت، بين الأنظمة الاستبدادية الإقليمية والعالمية وتشكيلها جبهة واحدة في مواجهة أشواق الشعوب للحرية.
في ظل الربيع العربي أيضاً، أدرك الرأي العام، العربي والإسلامي، أن هذه التنظيمات لا تصلح لأن تكون أدوات تغييرية للمستقبل المنشود، وهي توازي الواقع الذي ثاروا عليه سوءاً، ومنظر هروب الأفغانيين معلقين بدواليب الطائرات هرباً من حكم حركة طالبان كان يصبّ في هذا المعنى. وشكل تراجع التدين في مجتمعات عربية وإسلامية كثيرة أحد مؤشّرات تراجع التنظيمات الإسلامية، وخصوصا المتطرّفة، في التأثير بالوعي العام للشعوب.
كان الظواهري يشرف على تنظيم يحتضر يشبهه وقد أنهكه المرض، وباتت أيامه معدودة
على وقع تغير المعطيات بشكل حاد، طوال العقد الماضي، ، لم يعد ثمّة صدى بين الأجيال لفكرة محاربة العالم، أو حتى التصديق بوجود أزمة معه، باتت هذه الفكرة غير جاذبة، ولا يمكن انطلاقا منها استقطاب كوادر جديدة، أصبحت القضايا المحلية أكثر إلحاحا وواقعية،الصراع مع الحكام والأنظمة التي تشكّل العدو الأساسي، فلماذا الهرب بعيداً والخطر بات في الداخل، يقتل ويهجّر ويغيّر الهويات وحتى المذهب نفسه؟ وهكذا، جاء انشقاق جبهة النصرة، في هذا السياق، بعد إدراك زعيمها، أبو محمد الجولاني، ضرورة التكيف مع الواقع الجديد، والذهاب بعيداً في الابتعاد عن الفكر والممارسة القاعدية، وصيرورته أقرب إلى ممارسات الإخوان المسلمين في التعاطي السياسي وأساليب إدارة الحكم والعلاقات الخارجية، في إطار سلسلة من التحولات قد تنتهي إلى شكل تنظيمي ونمط فكري مختلف كلياً.
والحال، أن الظواهري لم يكن يشكّل، في حياته، سوى ظاهرة صوتية. وفي الواقع كان يشرف على تنظيم يحتضر يشبهه، وقد أنهكه المرض، وباتت أيامه معدودة. ولعل مقتل الرجل على شرفة منزله في أحد أحياء كابول "الراقية" يحمل دلالة على المآل الذي وصل إليه التنظيم، وحجم الترويض الذي تعرّض له من حكم "طالبان". وهو بهذا لا يختلف عن نظرائه من تنظيمات الإسلام السياسي، السنّية والشيعية، والتي باتت مجرّد أدوات بيد أطراف خارجية، لا تتحكم فقط بنشاطها وتحرّكها، بل بمصيرها ومتى يحين موعد موتها.
حتى على صعيد إمكانية توظيف إدارة بايدن عملية قتل بن لادن، ومحاولة تصريفها سياسياً على شكل رفع شعبية الرئيس، وتعزيز حظوظ الحزب الديمقراطي في الانتخابات النصفية للكونغرس، فالأمر مشكوك به، إذ بالمقارنة مع ارتفاع أسعار البنزين وغلاء المعيشة، فإن رصيد مقتل الظواهري يساوي صفراً لدى الرأي العام الأميركي الذي لم تسمع قطاعات واسعة منه بهذا الاسم.