الطاغية وغذاء الورد

14 ابريل 2022
+ الخط -

النحل نعسان من شدّة الحزن في انتظار رحيق الورد، والطاغية هناك أمام صفوف الأسلحة يتعجّب من هول العرض وضآلة الخصوم وندرة الورد في خلفية العرض، والتاجر هناك يُداري البذور في مخازنه العامرة جشعا، ويلاعب من بعيد الطاغية بإعلانات النيون من فوق المقطم أو هضبة الهرم أو الميادين المليئة بالحديد والرخام، ومحروسة بجنودٍ من الأرياف مساكين في انتظار ساعة الإفطار، وعربات أخرى صغيرة أكثر تنعّما وجاهزية مركونة على جنبٍ في هدوء، ويظهر فيها صغار الضباط، بهواتفهم النقّالة، وضجرهم ونظّاراتهم السوداء دائما، والشرق هناك تراه كحليم تعود على حلمه بالآيات والحكم المأثورة مع أي طاغيةٍ أوجدوه له حتى من جنوة أو روما أو كردفان.

النواعير دامعة والنيل ساكت ولا يتململ، والكاهن يخرج من حديقة الطاغية والكاميرات تتبعه حتى باب القصر، والمشايخ في لغط من رؤية الهلال، سواء بالمنظار أو العين المجرّدة، والهلال هناك في خجلٍ من أمر اللغط، والشرق هناك يُكثر من خيوط الحرير والذهب في ثوب الطاغية. والطاغية ينفق على المسلسلات من فوائد الديون باعتبارها أرباح السنة وعائدها، ويأمر للمساكين بالشاى والسكر والزيت. الكاهن يدمع، بعد ما يخرج من القصر حزينا، وفي يده البردية مطوية بعد ما استنكف الطاغية من محتواها المتشائم، بأن النهر في حزن، كما فهم الطاغية من محتوى ما بين سطور البردية. وقال للكاهن: "تفاءل وازرع الورد وطالع الصحف والمسلسلات ولا تعش على ما علّمته لك برديات الكهنة الخونة وأهل الشر منهم خصوصا وصنّاع الحزن في وادينا الطيب".

العالم في حاجةٍ لحيلةٍ بعد ما خجلت كل الحيل أمام ثعابين مرمية بالمئات أمام القصور، والمرايا التي تكسّرت في الميادين كافة، نرى فيها الطاغية بملايين الصور يضحك في كل يوم بمئات الصور والأشكال، حتى مع بائعات البصل والجرجير، ويتعطّف على إحداهن ويمنحها "تمناية"، ويعلمها قيادتها بنفسه أمام الكلية الحربية فجرا، ويمنحها رخصة دولية وعلاجها بمستشفيات القوات المسلحة أيضا، فتقول له ضاحكة: "ربنا يرزقك بالدهب والألماظ ويديك على قد نيتك يارب"، فيضحك ويرمي الجنود فوق "التمناية"، الورد.

الطاغية يريد من العالم أن يركع له، ويريد من الورد أن يخاف منه، ومن الرغيف أن يسجد له وهو في كفّ الرضيع، والأم نفسها لا بد أن تقدّم الصلوات من أجل الأمن، لأن الأمن وحده هو "عرين الدين"، وهو وحده مستقبل البلد والقمح والبنك، وحتى النخيل، لأن الطاغية هو نفسه "عرق اللبن"، وهو البركة للورد وهو ريحة الحصاد في عيدان القمح، وهو المنجل في أيدي الحصّادين، وهو الهواء للمذراة والعشب للغنم والريح للسفن.

نعم، العالم في حاجة لنسيم بعد ما تاهت الشبابيك، حيرانه في الشرق، وصار كل واحد هو بمثابة صديق حزنه وصديق حيرته، وكل أوضاع العالم في انتظار فرحةٍ ما، أو خلاصٍ ما، تأتي من أي مكان، سواء من شرقه، أو غربه. المهم أن تأتي حتى على جناح غراب، أو "جاكيت لافروف الرسمي"، حينما تضحك السماء له وهو يضحك أيضا بالعافية أو السكين، فيميل لضحكته الورد وقد يرقص له الغراب طربا لضحكته التي سرقتها الملائكة منه بالعافية.

حتى الورد في الشرق يخاف من القتل، والنخيل هنا زعلان أيضا، والعساكر في الميادين بعدد البلح والبنادق على كل كتف، والكل في انتظار معجزة، حتى من هدهد، بعد ما تعب الناس وصار الرغيف على الرضيع عزيزا، وامرأة العزيز لا نراها إلا في التلفزيون تضحك من غير سبب، وفي يدها مجوهراتٌ من مخازن فرعون والكاهن من خلفها يذكر البركة ويقطف لها الورد. والورد مسكين يوافق على القطف، والمنجل حزين وهي تضحك وكأن العالم أرنبة تنطّ فوق الحشيش فقط والطفل يكركر وهي تحاول جاهدةً أن تكركر.

الهواء شحيح، والنخيل ساكتٌ خوفا من أن يتهم بسوء الأدب، والكلاب هي الأخرى كفّت عن العواء، حتى في عزّ أنشطة اللصوص، والحمام وكأنه يستخلص بالعافية الحبوب من أنياب الحروب، حيث الجميع في انتظار نسمةٍ من هواء، أو حتى في انتظار قردٍ يفرد منديله فوق الرمل، ويقول للناس من حوله، إن هناك خيطا من أمل ما يأتي من الشرق، وخلف الخيط مليون دبابة في شكل كلابٍ تعوي، ولا أعرف بالضبط هل كل هذا الهول من لحم كالكلاب التي أعرفها أم هي ضباع من حديد، والرمل لا يقول لي أكثر من ذلك، رغم أن هناك وردة تميل في الشرق وبجوارها يمامة ساكتة وسكين.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري