الصين وفلسطين... السياسة بعقلية التجارة
الصين الدولة الوحيدة التي تدير السياسة بعقلية التجارة. تلك مسألة أساسية لتفسير سلوك الصين السياسي تفسيراً سليماً، وبغيره سنغرق في نقد الصين أخلاقياً وسياسياً، كما يفعل عربٌ كثيرون عند تناول موقف الصين من القضية الفلسطينية، ومن إسرائيل، وصولاً إلى حرب غزّة.
بتفصيل أكبر، ثمة قاعدتان تجاريتان تحكمان السياسة الصينية: أولاهما الربح المشترك، وهي ليست كلاماً دبلوماسياً فضفاضاً تورده الصين لمجاملة الدول الأخرى الصديقة، أو لإغرائها من أجل قبول الدخول معها في شراكات اقتصادية وسياسية، بل هي دافع حقيقي للسياسة الصينية، لأنها، من وجهة نظر الصين، الضامن لاستمرار الشراكات السياسية والاقتصادية. هذا على عكس ما تدور عليه الممارسات السياسية في الدول الأخرى؛ القوية والضعيفة، فغاية السياسة عندها أن تحفظ مصالحها وتحقّق غاياتها، لا أن تحقّق كسباً مشتركاً لها ولغيرها. ذلك لا يعني أن الصين تمارس السياسة بنبل أخلاقي، بل إنها تفهم السياسة بشكل مختلف عن الدول الأخرى. إنها تفكّر فيها بعقلية تجارية، وتمارسها بعقلية التجارة أيضاً التي هي حرفة الصينيين الخالدة منذ أقدم العصور. القاعدة الثانية أنها معنية بإرضاء "التجار" الآخرين، لا مستهلكيهم. هي معنية بالذين يبرمون معها الصفقات، ويشترون منها البضائع، أي بالحكومات التي تدير الدول الأخرى وتضع قوانينها وتملك السلطة فيها، لا بالشعوب التي لا قرار لها. لا تضع الصين في اعتبارها أن ثمة موقفاً شعبياً مغايراً للموقف الحكومي. مواقف الشعوب عند الصين هي مواقف حكوماتها. وعلى هذا تكون مواقفها وممارساتها في مختلف القضايا تبعاً لقاعدة إرضاء التجار الكبار؛ أي الحكومات التي لديها مصالح تجارية واستثمارية وسياسية وعسكرية معها، لا لإرضاء الشعوب والرأي العام. هذه الأخيرة مسألة لا يفهمها الصينيون.
في شأن القضية الفلسطينية، تتخذ الصين مواقفها في ضوء مواقف الحكومات العربية، التي هي الجهة التي تتطلع الصين إلى إبرام العلاقات السياسية والاستراتيجية معها. ثم تتّخذها عند دائرة أضيق في ضوء موقف الحكومة الفلسطينية، الشرعية من وجهة نظر الصين والقانون الدولي، التي هي حكومة السلطة الفلسطينية، أو حكومة "فتح"، أو حكومة محمود عبّاس، سمّها ما شئت. لكنها بالتأكيد ليست حكومة "حماس" وليست الشعب الفلسطيني. لا وجود من وجهة نظر الصين لموقف شعبي معزول عن موقف حكومته. هكذا تتخذ الصين مواقف تكافئ مواقف الدول العربية التي اعترفت بإسرائيل وطبّعت معها منذ السبعينات، سراً وعلانية، وتواصل التجارة والعلاقات الاقتصادية الواسعة معها، لأن الصين منسجمة مع القاعدة التجارية الثانية أعلاه، ولن تتجاوز موقف الحكومات العربية ولا الحكومة الفلسطينية التي تحسبها تعرف مصالحها ومصالح شعوبها، وتسعى إلى تحقيقها.
لن تتجاوز الصين موقف الحكومات العربية ولا الحكومة الفلسطينية التي تحسبها تعرف مصالحها ومصالح شعوبها، وتسعى إلى تحقيقها
على هذا يمكن تحقيب الموقف الصيني من القضية الفلسطينية، عقب تأسيس جمهورية الصين الشعبية، إلى أربع حقب تاريخية، ونلاحظ أنها جميعها تنطلق من القاعدة التجارية الثانية التي تحكم السياسة الخارجية الصينية: تقع الأولى بين تأسيس الجمهورية الشيوعية عام 1949 وانعقاد مؤتمر باندونغ عام 1955. لقد ورثت الجمهورية الشيوعية عند تأسيسها موقفاً صينياً متعاطفاً مع الحركة الصهيونية خلال حكم الحزب الوطني (كومنتانغ) الذي اعترف بدولة إسرائيل عام 1948، عقب عقود من نشاط "المجتمع اليهودي" في الصين الذي كان صهيونياً متحمّساً (كما تقول الموسوعة الفلسطينية) يجمع التبرعات ويتواصل مع المثقفين. ويبدو أنه كان متركّزاً في شنغهاي التي كانت بؤرة النشاط الغربي والأجنبي في الصين، ما سهّل عقد مقارناتٍ بين الاضطهاد الذي واجهه اليهود في أوروبا والاضطهاد الذي تعرّض له الصينيون خلال السيطرة اليابانية على بلدهم، وقاد إلى دعم حزب الكومنتانغ مضمون وعد بلفور. ما عزّز ذلك الإرث، أن إسرائيل بادرت إلى الاعتراف بجمهورية الصين الشعبية الوليدة مطلع 1950. ولكن الجمهورية الشيوعية تنبهت إلى ضرورة قلب موقفها والاصطفاف إلى جانب العرب ضد إسرائيل، عند انعقاد مؤتمر باندونغ عام 1955، الذي أفضى إلى تأسيس حركة عدم الانحياز. السبب الذي افتتح هذه المرحلة الثانية، اعتبار رئيس مجلس الدولة، شو إن لاي، للعدد الذي تمثله الدول العربية من جهة، ولمصالحها مع الدول المؤثرة في الحركة الناشئة من جهة ثانية، وإقناعه الزعيم ماو تسي تونغ بذلك بعد أن كانت بكين تعتبر القضية الفلسطينية "مسألة لاجئين".
تستمرّ المرحلة الثالثة 50 عاماً، وتلت تغيّر المواقف الراديكالية العربية تجاه إسرائيل، انطلاقاً من سبعينيات القرن العشرين، شملت إقامة الصين علاقات سرّية وعلنية مع الدولة العبرية، خصوصاً في الشؤون العسكرية، نجحت بكين خلالها في نقل تكنولوجيا عسكرية أميركية ثم تقليدها وتطويرها. هنا، ليس علينا ملاحظة أن الصين أطلقت تلك العلاقات بعد أن فعلت الحكومات العربية ذلك وحسب، ولا أن الأمر تزامن وانفتاحها على الغرب عقب زيارة نيكسون بكين عام 1972 ثم اتخاذها سياسة الإصلاح والانفتاح عام 1978. لا، ما علينا ملاحظته، وينسجم مع القاعدة التجارية الثانية للسياسة الصينية، أن بكين اعتبرت انفتاحها على إسرائيل أمراً مريحاً للحكومات العربية ومرضياً لها. لا اعتبار، مرّة أخرى، لرأي الشعوب في مواقف الصين.
القواعد التجارية التي تحكم سلوك الصين السياسي هي المفتاح لفهم الصين ولدفعها إلى مواقف نريدها
أما المرحلة الرابعة، الأخيرة، فقد دشنتها انطلاقة الأحلام الإمبراطورية الصينية مع وصول الرئيس الحالي شي جين بينغ إلى السلطة في أواخر عام 2012. ولأن طموحات النفوذ الصينية عبر مبادرة الحزام والطريق و"مجتمع المصير المشترك للبشرية" إنما تقوم على إرضاء الحكومات لإبرام الصفقات معها، ولا تقوم على التصرّف كدولة عظمى تفرض وجهات نظرها على الآخرين وتناطح الولايات المتحدة، فقد استنسخت بكّين مواقف الحكومات العربية، وراحت تتصرّف كطرف سياسي محايد يدعو إلى وقف العنف وحماية المدنيين وحلّ الدولتين، وذاك ما تفعله حكومات العرب الذين هم أشقّاء الفلسطينيين، أفلا تفعله الصين؟
القواعد التجارية التي تحكم سلوك الصين السياسي هي المفتاح لفهم الصين ولدفعها إلى مواقف نريدها، لأن بكّين ما تزال مهتمّة بإرضاء الحكومات العربية حسب وصية شو إن لاي؛ رجل الدولة وحكيمها.