الصينيون ونُذر الحرب
في هوجو؛ المدينة الصينية التي اعترفت بها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو) باعتبارها المصدر الأساسي لمادة الحرير في تاريخ البشرية، والتي لا تزال تُنتج نحو 80% من إجمالي الإنتاج الصيني من تلك المادة، التي ظلت مئات السنين مفتاحاً لانفتاح الصين على العالم والتواصل مع حضاراته، فيها تحديداً تصفّحت وجوه الناس بشأن حرب بلادهم المحتملة مع الولايات المتحدة وحلفائها في شرق آسيا، فلم أجد أن الخلق هناك يعيرون الأمر اهتماماً أو يجعلونه جزءاً من يومياتهم، لا بل إنهم، على العكس من ذلك، يتحدّثون عن دور منطقتهم في الانفتاح على العالم القديم، وأنّها لا تزال حلقة وصلٍ أساسية للصين مع العالم المعاصر، كما كانت منذ آلاف السنين، إذ جرى العثور على أقمشة حريرية في تلك المنطقة، كما تقول "يونسكو" على موقعها الرسمي، يعود تاريخها إلى العصر الحجري الحديث (3400-2250 قبل الميلاد)، كما يعود تاريخ التجارة الخارجية لتلك المنطقة في مجال الحرير والشاي والخزف والسلع التجارية الأخرى إلى آلاف السنين، إذ ساهم موقعها على بحر الصين الشرقي في جعلها مركزاً طبيعياً للتجارة.
والمعنى أنّ أهل "بيت الحرير" ما زالوا يتحدّثون عن الانفتاح والتجارة والتواصل، وغيرها من مبادئ قادت الصين إلى نهضتها منذ أطلق زعيمها دينغ شياو بينغ خطّة الإصلاح والانفتاح عام 1978، وكأنّ شيئاً جديداً لا يحدُث حولهم وفي محيطهم، وكأنّ أمراً مستحدَثاً غير مرشّح للوقوع. الحياة في هوجو، وكذلك في هانجو، عاصمة مقاطعة تشجيانغ التي تنتميان إليها، لا توحي بأن ثمّة ما تغير في فهمهم لمستقبل بلادهم خلال الأعوام الأخيرة، خصوصاً منذ اشتداد التنافس والصدام مع واشنطن قبل أكثر من سنتين، وقبلها وقوع جائحة كورونا التي لا تزال الصين تتعافى منها، بعد أن أغلقت أبوابها على نفسها نحو ثلاث سنين.
السعي الصيني إلى ضم تايوان مستقبلاً يتّخذ الطريق ذاته الذي انطبق على هونغ كونغ وماكاو
ربما يكون الأمر مختلفاً في بكين؛ هكذا قلت في نفسي. لكنه لم يكن كذلك، كأنما الحرب المحتملة "عرسٌ عند الجيران". رحتُ أسأل أصدقائي في العاصمة، وهم أكاديميون ومثقفون وإداريون، فتحدّثوا عن احتمالات الحرب باعتبارها أمراً غير مطروح على طاولة يومياتهم، وزادوا أن الولايات المتحدة ليست عدوّة لبلادهم، وهم أنفسهم لا يعتبرونها كذلك. كل ما في الأمر، في نظرهم، اختلافٌ في وجهات النظر لا يفسد للودّ قضية!
أما عن تايوان، فرأيهم أن حكومتهم لا تضع في حسبانها غزو تلك الجزيرة وضمّها بالقوة العسكرية إلى جمهورية الصين الشعبية، كما تزعم المصادر الغربية، بل إن السعي الصيني لضم الجزيرة مستقبلاً يتّخذ الطريق ذاته الذي انطبق على هونغ كونغ وماكاو، أي ما تسمّيه الصين "دولة واحدة ونظامان"، بحيث تحافظ تايوان على نظامها الاقتصادي الليبرالي، كما هو حال هونغ كونغ التي لا تزال لها عملتها الخاصة، وعلمها الخاص، وأنظمتها الخاصة التي لم يغيرها الضم إلى دولةٍ تقول عن نفسها إنها اشتراكية. على أن ذلك ليس مطروحاً على برنامج بكين حالياً، لأن ثمّة أولويات أكثر أهمية حالياً، منها مواصلة النمو الاقتصادي والتقدّم الصناعي، ما يمنع الصين من التفكير في الدخول في صدام عسكري مع الولايات المتحدة يشغلها عن أهدافها الاقتصادية من جهة، ويفسد البيئة الدولية الهادئة التي تريدها الصين لمواصلة تجارتها الخارجية ومشروعاتها الاقتصادية.
نذر الحرب لا تلوحُ في أفق الصينيين، ويواصلون عيش حياتهم بهدوء وطمأنينة
أما التوترات التي يشهدها محيط الصين في غرب المحيط الهادئ ومضيق تايوان، فغرضها، برأي من استمعت إليهم من الصينيين، المناورة السياسية من طرفي التنافس الدولي: الولايات المتحدة والصين، وهو أمر ينطبق على مناورات الصين العسكرية بالذخيرة الحية قبالة سواحل تايوان، كما ينطبق على مناورات الولايات المتحدة العسكرية مع جيران الصين: كوريا الجنوبية واليابان والفيليبين. والذي يجري أن بكين تتراجَع في استعمال القوة العسكرية عندما تتقدّم واشنطن، وتتقدّم عندما تتراجع، وهكذا يتواصل تبادل الأدوار بحيث لا يقع الصدام العسكري بينهما.
والحال أنه بينما ينشغل العالم باحتمالات وقوع صدام عسكري بين الولايات المتحدة والصين، بعد أن حشدت واشنطن قواتها في المنطقة، فإن نذر الحرب لا تلوحُ في أفق الصينيين، ويواصلون عيش حياتهم بهدوء وطمأنينة. وهذا الوضع في الداخل الصيني يعني أنّ قيادة الدولة لا توجّه خطاباً إلى الداخل مفاده الاستعداد للقتال والحرب، كما توحي تصريحات عسكرية أطلقها قادة الجيش ووزير الدفاع على امتداد الشهور الفائتة، ووجدت صدىً في الإعلام الغربي والعالمي، وتضمّنت تحذيرات للولايات المتحدة وحلفائها وحديثاً عن الحرب المحتملة، ما يؤكّد أن تلك التصريحات، ونظيرتها من تصريحات الدبلوماسيين والعسكريين الصينيين، كان غرضها تحقيق توازن في الخطاب السياسي والعسكري مع خصوم الصين ليس إلا. وما يمكن إضافته هنا أن النشاطات العسكرية الصينية في مضيق تايوان ينطبق عليها الغرض ذاته، المتمحور حول تحقيق التوازن والردع، ولا يشي بأن الصين ستبدأ حرباً بالضرورة، أو تخطّط لغزو تايوان في المستقبل القريب.
يرى الصينيون أنفسهم شركاء للعالم، لا خارجين عليه. تلك هي الحقيقة التي يُفترض أن يدركها كل من يريد فهم الصين، ومعرفة نياتها المستقبلية، ومؤدّاها أن الصين ستحفظ شعرة معاوية مع الولايات المتحدة تحديداً ومع العالم الغربي بشكل عام، بحيث لا تذهب إلى حربٍ حقيقيةٍ ولا حتى إلى حربٍ باردة.