الصراع على جمر قطاع غزة

21 سبتمبر 2014

ما زالت مصر تغلق معبر رفح (1سبتمبر/2014/أ.ف.ب)

+ الخط -

ليس مبالغةً القول إن القابض على قطاع غزة كالقابض على جمر النار، ولعله قولٌ يلخص بإيجاز بعضاً من تاريخ القطاع، بأثقاله المختلفة عسكرياً وسياسياً وديموغرافياً واقتصادياً واجتماعياً. فهو كتلة ديموغرافية كبيرة (نحو مليوني شخص) تموج على مساحةٍ جغرافية محدودة (نحو 365 كيلو متراً مربعاً)، الأمر الذي يجعله الأكثر كثافةً ديموغرافية في العالم، مع افتقاد مشهود للموارد الأساسية للحياة، بدءاً من المياه، ومروراً بافتقاد المساحة والتربة الكافية للإنتاج الزراعي والحيواني، وافتقاد للثروات المعدنية والنفطية، وحتى المالية، وكثرة في البطالة والأفواه الجائعة، والفراغ الذي يدفع إلى الهجرة والحفر في كل الاتجاهات، بحثاً عن فرص ومخارج.

وقد اشتهر سياسياً وعسكرياً بعدم المطاوعة، ومن ثم بالمقاومة بكل أشكالها، في مواجهة إسرائيل التي احتلت فلسطين عام 1948، ولم تستطع أن تحتل القطاع، والذي أصبح بعدها قطاعاً ومعسكراً لاستقبال اللاجئين وإقامتهم، ومقراً لإنشاء أول حكومة فلسطينية في التاريخ الفلسطيني في القرن العشرين (حكومة عموم فلسطين في 23/9/1948)، وعقد أول مجلس وطني فلسطيني (في 1/10/1948)، أعلن فيه استقلال فلسطين وإقامة دولة حرة ديمقراطية ذات سيادة ضمن حدود فلسطين الانتدابية، وأقر خلاله أول دستور لفلسطين.

وأصبح، أيضاً، منطلقاً للأعمال الفدائية الفلسطينية، خصوصاً في منتصف الخمسينيات بعد العدوان الإسرائيلي على القطاع في 28/5/1955 الذي اعتبره الرئيس جمال عبد الناصر نقطة تحول وجرس إنذار. وقد احتلته إسرائيل في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، ثم انسحبت منه، واحتلته ثانية في عدوان 1967، وبدأت آنذاك مرحلة جديدة من المقاومة للاحتلال، تتالت بعدها الحملات الإسرائيلية على القطاع، لإخماد جذوة الكفاح والمقاومة فيه، من 1967 إلى 1993 تاريخ التوقيع على اتفاق أوسلو، وما عرف بداية باتفاق غزة – أريحا أولاً. ثم استؤنفت الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع وهو في عهدة السلطة الفلسطينية، في محاولة لاجتثاث روح المقاومة المسلحة، وفرض الإخضاع السياسي، إلى أن أجبرت الحكومة الإسرائيلية، برئاسة أكثر رؤساء حكوماتها بطشاً وإرهاباً، إرييل شارون، عام 2005، على اتخاذ قرار بانسحاب القوات والمستوطنين وتفكيك المستوطنات الموجودة هناك، من دون الإعلان رسمياً عن إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للقطاع.

وعلى الرغم من ذلك الانسحاب، إلا أن الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع لم تتوقف، وكان منها ثلاثة كبيرة بمثابة حروب، في 2008 وفي 2012 والثالث الذي استمر، أخيراً، 51 يوماً، وقضى فيه نحو 2200 فلسطيني وجرح نحو 11 ألفاً ودُمر نحو عشرة آلاف منزل، عدا ما دمر من مدارس ومساجد ومشاف وبنى تحتية، بذريعة الرد على أعمال المقاومة التي تقوم بها وتظهرها حركة حماس التي تولت السلطة في القطاع عام 2007، بعد انقلاب نفذته ضد حركة فتح والسلطة هناك، وتم الرد عليه إسرائيلياً بمحاصرة القطاع وإغلاق معابره وعدم فتحها إلا بصعوبة بالغة.

وكشفت مجريات العدوان الإسرائيلي، أخيراً، وردود الفعل عليه والحراك السياسي الذي رافقه، وتبعه، أن ثمة صراعاً يزداد انكشافاً، تخوضه أطراف عدة على القطاع، وأن تناقض مواقف ومصالح أطراف هذا الصراع هو ما أطال عمر العدوان، وعرقل التوصل، سريعاً، إلى اتفاق وقف إطلاق النار، وعرقل، وما يزال، التوصل إلى اتفاق واضح المعالم لما سيلي وقف إطلاق النار من إجراءات، وجعل أمر التوصل إليه عرضة لمفاوضاتٍ، قد لا تنتهي إلا بعد حسم هذا الصراع لصالح طرفٍ أو أكثر من الأطراف المتصارعة، وهي:

أولاً-حركة حماس: المسيطرة على القطاع منذ 2007، والتي استهدفتها الأطراف الأخرى بالحصار وبالاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وقد نجم عن ذلك نشوء حالة خاصة من الارتباط شبه العضوي بين حماس (وحلفائها من الفصائل الأخرى) والقطاع، الأمر الذي جعل القطاع يبدو بمثابة قطاع أو إمارة لحماس، يصعب عليها التخلي عنه، أو الخروج منه، سواء عبر تسليم السلطة فيه للسلطة الفلسطينية، أو عبر تسليمها، وهي المعروفة بإيدولوجيتها المميزة لسياسات السلطة ومنهجها بشأن السلام مع إسرائيل، وهجر المقاومة المسلحة، واعتماد المقاومة السلمية الشعبية. فهي ترفض أي تراجع عن مواقفها وسياساتها، وإن قبلت، كما في اتفاق المصالحة مع فتح واتفاق حكومة التوافق بالتراجع قليلاً على هذا الصعيد، إلا أنها لن تقبل بتسليم ثوابت سياساتها ومقاومتها وسلطتها.

ثانياً-مصر: حرص النظام المصري، وما يزال، على التمسك بمعاهدة الصلح مع إسرائيل والاتفاقية الموقعة مع السلطة الفلسطينية بشأن إدارة معبر رفح (المعبر الوحيد بين مصر وقطاع غزة) وقد وقفت ضد الانقلاب الذي قامت به حماس في القطاع، وأغلقت معبر رفح، مما اضطر حماس إلى تطوير النقل والتنقل عبر الأنفاق على جانبي الحدود مع مصر، لتتغلب على قيود الحصار المفروض، إلى أن حكم الرئيس محمد مرسي ومعه جماعة الإخوان المسلمين في مصر، مما أدى إلى انتعاش معبر رفح والأنفاق، بسبب التقارب بين حماس والجماعة، إلى أن أزيح مرسي عن الرئاسة، وأبعدت الجماعة ولوحقت. ومع تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد السلطة، حدث انقلاب في السياسة المصرية تجاه حماس، تم فيه تدمير الأنفاق من الجانب المصري، وشن حملة سياسية اتهامية ضد حماس، بمساعدة الحكم السابق، مما أدى إلى توتير العلاقة، ووصولها إلى حد القطيعة والتعادي.

وتجلى ذلك بوضوح كبير في العدوان على القطاع، عندما امتنعت مصر عن فتح معبر رفح إلا للحالات الإنسانية الحرجة، وعندما تقدمت بمبادرةٍ لا تتضمن شيئاً من مطالب حركة حماس، لوقف إطلاق النار ووقف العدوان، مما دفع حماس إلى رفضها، ثم التواصل مع السلطة الفلسطينية، وتشكيل وفد مشترك للتوجه إلى القاهرة، والعمل، بالتالي، على تطوير المبادرة المصرية، والقبول بوقف إطلاق نار، يكون مقدمةً في غضون أسابيع نحو التفاوض على تطبيق بنود المبادرة.

ويوضح الأداء المصري أن القاهرة لن تفتح معبر رفح، إلا بعد عودة السلطة الفلسطينية وحكومة التوافق الفلسطينية إلى غزة، وتسلمها مقاليد السلطة هناك، بما في ذلك الإشراف على معبر رفح والمسؤولية عنه، مما يعني أن مصر في انتظار إزاحة حركة حماس عن سدة السلطة، وتقدم السلطة الفلسطينية، وتوليها الحكم هناك.

ثالثاً-السلطة الفلسطينية: تعتقد أن سلطة حماس في القطاع توشك على نهايتها، بفعل تبدل الحكم في مصر، والمجافاة والعداوة الظاهرة تجاه حماس، وبفعل تدمير الأنفاق من الجانب المصري، وتوقف الحركة عبرها، وبفعل العدوان الإسرائيلي، أخيراً، وما تكبده القطاع من خسائر بشرية ومادية، وتشريد نحو نصف مليون من سكانه، وبعد موافقة حماس على المصالحة مع حركة فتح، وتشكيل حكومة التوافق الوطني. وتعتقد السلطة أن كل ما تقدم سيفرض على حماس المزيد من التخلي عن سلطاتها، وبعض اشتراطاتها، بشأن مسيرة المصالحة والوحدة الوطنية والانتخابات التشريعية والرئاسية، وتفعيل منظمة التحرير، وحتى بالنسبة لمسائل كثيرة متعلقة بقرار السلم والحرب، وحرص السلطة على أن يكون الأمر لها، مما دفع السلطة أخيراً إلى إظهار تشدد واضح، عبرت عنه تصريحات رئيسها.

رابعاً-إسرائيل: تعمل جاهدة على استمرار الانقسام الفلسطيني أطول فترة ممكنة، لتعميقه وترسيخه، وجعل تجاوزه من المستحيلات. ولذلك، تُظهر العداء لكل اتفاق بين فتح وحماس ولكل حكومة وحدة أو توافق فلسطيني، وتعتقد أن مفاعيل حربها الأخيرة على القطاع ستنهك حكم حماس، وستفرض عليها تراجعاً يخفف من اعتمادها خيار المقاومة والاستمرار في التسلح لصالح التركيز على إعادة إعمار ما دمرته الحرب، والتراجع لاحقاً على صعيد الموقف السياسي، والمسائل المتعلقة بالاعتراف والسلام مع إسرائيل.

ويضاف إلى ذلك أن الاستمرار في حصار حماس، واستمرار الانقسام والقطيعة بين حركتي فتح وحماس، سيساعد في استمرار التضييق على حركة حماس في الضفة الغربية، وسيساعد، لاحقاً، في إضعاف الحراك السياسي للسلطة، إقليمياً ودولياً، للضغط على إسرائيل للقبول بحل سياسي، ينهي احتلالها ويفتح الطريق لإقامة الدولة الفلسطينية في حدود 1967.

تؤكد المعطيات الراهنة أن الصراع على القطاع ما يزال مفتوحاً، وقد يطول أمده. ومن الواضح أن حماس لن تستسلم أو تتنازل عن ثوابتها الإيديولوجية والسياسية، ولن تقبل بأن يعاملها أي من الأطراف الأخرى كمهزومة أو منهكة يسهل فرض الشروط عليها وتدجينها. وتؤكد نبرة خطابها الانتصاري في الرد على اشتراطات التقدم باتجاه فك الحصار، وغير ذلك مما هو معروض في المبادرة المصرية، عزمها على المضي في نهجها، في انتظار ظروف أفضل، وعزمها على الاستمرار في القبض على جمر القطاع، في انتظار تهيئة الظروف لها، للعبور إلى قطاع أفضل.