الصحافة الثقافية العربية تحتضر

02 فبراير 2023

(نجيب بلخوجة)

+ الخط -

يؤرّقنا، نحن محرّري الصحافة الثقافية، ما آلت إليه أوضاعها في السنوات الأخيرة، بعد أن كانت، في زمن سابق، منبراً حيوياً لنشر الأدب العربي شعراً ونثراً، ما ساهم في تعزيز أسماء شعرية وقصصية وروائية كثيرة.

وفي سياق هذا الأرق، سألني زميل عن رأيي "بواقع الصحافة الثقافية في العالم العربي؟ وما هي أسباب انحسارها لصالح الصحافة الإخبارية؟ وما علاقة وسائل التواصل الاجتماعي بذلك؟". قلت له "من الطبيعي أن تنحسر الصحافة الثقافية وتقلّ مساحاتها لصالح الصحافة الإخبارية في ظل تنامي دور وسائل التواصل الاجتماعي من جهة، وقدرة كل فردٍ على أن يصنع إعلامه الخاص بنفسه، فالجميع أصبح قادراً على التعبير عن أفكاره وآرائه الثقافية وغير الثقافية في المنصّات التواصلية التي يملكها، كما أنه أصبح قادراً على نشر ما يشاء من موادّ ثقافية وإبداعية في تلك المنصّات. لكن هذا لا يعني أن تلك المنصّات غير قادرة على صنع صحافتها الثقافية المميزة بدورها، وهناك تجارب جميلة على هذا الصعيد استغلّت معطيات التكنولوجيا الجديدة في نشر الثقافة بوسائل مناسبة للعصر، وبأدواتٍ باتت في أيدي الجميع".

وما لم يتّسع له الرد على سؤال الزميل في سياق مقابلة صحافية أجراها معي لتنشر في واحدة من الصفحات الثقافية التي يقاتل محرّروها في سبيل بقائها كما يفعل كل محرّري الصحافة الثقافية، يمكن أن نضيفه هنا، فنقول إن الدور الذي كانت تضطلع به تلك الصفحات والمجلات والدوريات الثقافية لم يعد مهماً بحدوده المعروفة، خصوصاً أن محرّري هذا النوع من الصحافة لم يفطنوا مبكّراً للتغيرات الهائلة التي طرأت على أدوات مهنتنا الجميلة، وبالتالي لم يبادروا إلى استثمارها لصالحهم ولصالح ما ينبغي عليهم نشره فيها.

لم يعد الشاعر بحاجة لمساحةٍ ينشر فيها قصيدته الجديدة، وفي سبيل الحصول عليها ينتظر أياماً وأسابيع وأحياناً شهوراً قبل أن يفتح الصحيفة ليقرأ اسمه أعلى قصيدته أو أسفلها. إنه يستطيع الآن نشر ما يشاء فوراً ومجّاناً في أيٍّ من منصّات التواصل الاجتماعي، وبالشكل الذي يناسبه ويناسب مادّته الأدبية، فلا ينتظر إعجاب محرّر الصفحة ولا موافقة رئيس التحرير. وبالتأكيد لن ينتظر أياماً وشهوراً حتى يأتي دوره في النشر. كما أن أحداً لن يطلب منهم اختصار القصة أو القصيدة بما يناسب المساحة الممنوحة له من الصفحة!

لكن النشر بحدّ ذاته ليس هو الدور الوحيد للصحافة الثقافية، بل لعلّ هذا الدور هو الأسهل والأيسر والأقل في التأثير. أما الدور الأهم فهو دور التحرير الفعلي، وما يستتبع ذلك من تقويمٍ من النقاد، وهو ما يخلف في نفوس القرّاء نوعاً من القبول المبدئي لنصوصٍ مرّت من بين نافذة التقويم بسلام ما يعطيها نوعاً من المشروعية الإبداعية!

وهذا بالضبط هو الدور الذي ينبغي ألا يموت، حتى وإن تغيّرت أدوات الصحافة الثقافية ووسائلها، فمن خلال تلك النافذة تحديداً مرّت ظواهر للإبداع العربي كثيرة في النصف الثاني من القرن العشرين، وترسّخت الأسس والنظريات والأسماء الفاعلة في المشهد الثقافي العربي عموماً.

الصحافة الثقافية، إذن، رغم الوهن الذي تعاني منه، إلا أنها ما زالت قادرة على مواصلة البقاء من خلال تشخيص الأمراض في ساحة الإبداع ومحاولة معالجتها! المهم أن يمارس الصحافيون المؤمنون بأهميتها ذلك الدور الكبير الباقي لهم منها ويتمسّكوا به لا على صفحات صحفٍ أصبحت غير متاحة لهم إلا قليلاً وحسب، ولكن أيضاً بكل المنابر الجديدة التي يستطيعون الوصول إليها والتفاعل معها والعبور من خلالها إلى القراء.. وهذا دور عظيم!

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.